
زرتُ أبي بعد خمسة عقود من وفاته، وكنتُ في الثالثة والسبعين من عمري. كان يتوقع زيارتي، ووقف بانتظاري قلقاً ومهتاجاً في باب المقبرة، ابتسم وقال:
_ يا للمفارقة، أبن أكبر من أبيه!
_ أكبرك بثلاثة عشر عاماً… يا أبي، ويبهجني أراك كما أنت، لم تكبر ولم تتغيّر.
_ نعم، لأني لم أر الشمس، ولا الشمس تراني… الشمس وحدها تنسج الزمن على حقيقته… يا ولدي.
_ هل فيك رغبة للمشي؟
وكدت أسأله؛ هل فيك قدرة على المشي، فهو الآن، في حسابي، بعمر مئة وأثنى عشر عاماً.
_ بي رغبة أن أجلس وأستريح، فأنا أمشي منذ خمسين عاماً ولم أتوقف.
_ إذاً، أنتظر منك تقص عليّ ما شاهدته، عن كائنات وأماكن في مجاهل الكون.
_ على رسلك يا رجل، كنت في مكان واحد لا يتجاوز خطوتين… أرجوك خذني إلى البحر.
تصرفت كما لو أني فهمت ما قصد في كلامه؛ أنه مشى خمسين عاماً في مكان لا يتجاوز خطوتين… هكذا الأبناء دائما يدّعون الفهم ويُوهمون الآباء… وهكذا الموت يلغي المسافات والزمن… لابد أنه ثقب أسود كوني على الأرض يبتلع كل شيء… أضاف:
_ حدّثني عنك، فأنا لم أطمئن لأقوال الموتى، فهم يتفوهون بما تبقى في جماجمهم من فراغ، وليس لديهم ما يخسرونه أذا كذبوا.
_ سأحكي لك، إذا وعدتني أن تحكي لي ما قالوه عني.
_ أعدك!
جلسنا على دكة حجرية قبالة البحر، بيننا وبينه ساحل صخري، وأحجار سود منخورة جارحة تنتحر عليها الأمواج تباعاً وتتهشم. هبّت علينا نسائم محملة بالماء والملح وزفرة البحر، اختلطت برائحة أبي الترابية وملأت صدري بالسعال.
_ كنتُ في ريعان الشباب حين غادرتَ ولم أتجاوز الثانية والعشرين، ولا أخفي عليك، لم أشعر بفقدانك، فأنت كنت مفقوداً طيلة حياتي، ولكني بكيت لبكاء أمي واخوتي… غيابك وانشغالي بدكان الصياغة حفاظاً على الارث، ابعدني عن حياتي وأفقدني أجمل حب عشته… آه، إنها قصة طويلة، معقدة وغامضة.
_ لم أكن أعرفك عاشقاً. حين زرتني قبل رحيلي بأربعة أشهر، هل تتذكر تلك الأيام؟ كنتَ سعيداً جداً بشبابك، ومن عادة العشاق يكونون مثقلين بالهم، يسرحون بخيالهم بعيداً حيث الحبيب، ضعفاء كجناح فراشة تحوم حول النار. انتظر منك أن تقصها عليّ، فليس أجمل من قصص الحب.
_ نعم، بسبب عنفوانه توقف قلبك في حضن عشيقتك وأنت في الستين من عمرك… أليس كذلك؟
_ هل عرفت أمك بالأمر؟
_ سمعته كما كانت تسمع عن مغامراتك من قبل دون أن يرف لها جفن. لم أعرف انسانا في حياتي كلها، استبسل في معركته كما هي، ظلت واقفة على قدميها حتى توقف قلبها. هل علمتَ أنها عاشت من بعدك عمراً يفوق السنين التي عاشتها معك بعشر سنوات، ماتت وهي تمازح طبيبها وتبتسم في وجهه، عن عمر يناهز الثالثة والتسعين.
الناس تناقلوا خبرك مثلما يتناقلون العدوى… بررت عشيقتك وجودك في فراشها أنك صعدت إلى بيتها تطلب الماء.. حين فتحتُ الدكان وطفقتُ بتنظيم حياتي فيه، زارني زوجها يبلغني اسفه وحزنه، وفي ذمتك مبلغ اربعمئة فلساً، وهو غير راضي أنك تذهب إلى آخرتك وفي عنقك دين. دفعت له نيابة عنك ولكني لم أتمكن من دفع الذمم الأخرى.
كان أبي يتململ في مكانه، يحدق بريبة في البحر البعيد وكأنه ينتظر شيئاً مهولاً ينبثق من اعماقه، ثم استكان وطأطأ رأسه يتأمل رغوة الملح على الساحل مثل حبل مركب عتيق متهرئ يطوّق البحر ويرسم حدوده الجغرافية. أكملت حديثي:
ما دام ليس بوسعي إخفاء ما يجيش بنفسي، دعني اصارحك في القول؛ لقد ظلم امي وحرمتها مما كان يجب أن تحظى به امرأة جميلة وشريفة مثلها… كسرت قلبها في مماتك. لقد تطرفت هي في اخلاصها وصبرها، وانت تطرفت في خيانتك… كنت مغروراً بحبها، بوسامتك، بغنائك الشجي، بفطنتك ولسانك السلس.
_ كنت أراهن على عمر آخر معها.
_ تقصد كنت تنتظر أن تشيخ وتفقد القدرة على العيش لوحدك، وتحتاج إلى خدماتها في آخر العمر.
_ ليس تماماً، بل راهنت على ديمومة حيويتي.
_ تعرف، كان أمرها يقلقني ويشغل بالي، ما جنته من عشرتك، خلال ثلاثين عاماً لو جمعته لا يتجاوز عامين أو يزيد بضعة أيام، وما تبقى من عمرها كزوجة، أكلته أشهر الحمل، والرضاعة، ورعاية تسعة أبناء وأم وحماة، والنوم وحيدة تتوسد ذراعها… فيما كنتَ تنعم في مخادع زوجات زبائنك الانجليز وعشيقاتك العربيات.
_ أنت لم تفعل غير هذا لو كنت في مكاني.
ابتسم ونظر في عينيي ملياً.
_ لِمَ تبتسم؟ قلّ ما في خاطرك!
_ أنا حريص على قضاء الوقت معك لأسمعك، أسمعك فقط… خمسون عاماً لم نلتقي يا رجل! دعك مني واحكي عنك، أرجوك!
_ قلت إنك تعرف عني كل شيء، وتراني كما ترى نفسك.
_ لا، لم أقل أراك كما أرى نفسي، فلم تعد لي نفس أراها، بل أراك كما أرى النور تماماً، شفافاً وواضحاُ.
مسني هذا القول برعشة سرت في فقراتي، وشعرت بثقب يتسلل منه الهواء إلى عظامي، وأني فارغ عن آخري، وعدّلت من جلستي وقابلته تماماً. نظر في وجهي صامتاً وتأملني وكأنه يتذكر، وقف عاقداً ذراعيه خلف ظهره، وخطا صوب البحر… ماذا يحصل له لو رشقته موجة عاتية؟
_ أبي، من فضلك لا تقترب من الماء!
التفتَ إليّ وكأنه يستفهم عن معنى كلامي، أو يستنكر تحذيري… أو أنه انقطع عني وعاد إلى موته، ولم يعد يسمعني. بانت على محياه ملامح ازدراء، وقطّب حاجبيه وراح خطوات أسرع صوب البحر ودخل فيه…
في لحظات ذاب مثل فص ملح في الماء.
الدفتر الأول من “دفاتر النسيان”
رسام وكاتب عراقي/ النريج
[email protected]