
أسكن منذ سنين بالطابق العاشر من عمارة شاهقة في مدينة الدار البيضاء، لكنني لا أعرف كل سكان العمارة ما عدا جاري الذي يقطن قبالتي وإن كنا لا نتبادل التحية منذ أن أقمت هنا، فشكله الغريب دوما، يشد انتباهي! من ملامحه يبدو وسيما وجذابا لكنه يختبئ تحت لحية كثيفة شقراء تذكرني بأبطال الشر في الأفلام القديمة، وغالبا ما أنسى في خضم الأحداث، أنه يقيم بالشقة المجاورة، لكنني تذكرت اليوم بعض عاداته حين أعلنت كل أخبار العالم أن خفاشا ملعونا قد تسبب في وباء سيأتي على الأخضر واليابس.
أستحضر الآن خطوات جاري في الممر مع خفاشه الصغير الأصفر، حتى أنني حين كنت أفاجئه بفتح الباب، أجده يتحدث إلى ذلك الحيوان وينصت إليه وكأنه يفهم ما يقول! أسأل نفسي :
هل الخفاش حيوان أليف؟!
لا أظن؛ فلأول مرة في حياتي أعرف بأن الخفاش يمكن أن يوجد داخل شقة، وأن يكون صديقا لآدمي! أمر غريب؛ جاري هذا، هو أيضا، لا أراه إلا ليلا، فأين يكون في النهار؟
تملكني إحساس بالرعب، فهذا الطائر تتحدث عنه كل وسائل الإعلام؛ المرئية والمكتوبة.. وتلوكه ألسنة الناس، ويصرخ العالم ويتذمر من جبروته وإمعانه في القتل.. وها هو هنا، لا تفصلني عنه سوى أمتار، وهذا الجار نفسه، ألا يخشاه؟ ألا يهاب الموت؟
بدأت أختنق وأنا أفكر في جاري، وفي هذا الطائر الذي يلفه فراء أشبه بالحرير، كيف له أن يسلي جاري وهو ليس كبقية الحيوانات الأليفة؟ لماذا لا يربي قطا وديعا أبيض ببقع وردية أو بنية، أو كلبا صغيرا بشعر كثيف مثل كلاب الصالونات المدللة، أو حتى طائرا جميلا بألوان مشرقة؟
يا إلهي، ما حاجته لخفاش!؟
بدأت أستعيد الشريط، حين كنت أباغته وهو بالممر مع خفاشه ذاك، كان يقبله في فمه ويقلده في الحركات والسكنات وفمه مفتوح قليلا وكأنه سيغني له؛ يصعد وينزل فيبدو كأنما يرتدي سلهاما يجعله يطل على العالم بأنفة ويعود… استعدت شريط الحركات ببطء شديد وهالني ما تذكرت.. والغريب أن ما أعرفه عن الخفاش أنه كائن يعشق الليل ويطير للصيد أو ليلقح الفواكه والخضر التي نأكل، فكيف يعيش هنا بهدوء؟ ألا يحن إلى الطبيعة؟ …
ثم إنه مصاص دماء يقتات على الحشرات، فما الذي جعله ينزوي في هذا الركن الضيق ويصمت كل هذه السنين؟ !
كنت قد بدأت أعقم كل شيء، وقد أنسى وأضع يدي على المشتريات وأحك أرنبة أنفي، ثم أهرع لأغسل يدي ووجهي… أتذكر وأنا أنظف المائدة بأنني انحنيت وجمعت بيدي من الأرضية بعض الفتات … فأعدو بجنون إلى المطبخ لأغسل يدي من جديد وأعقمهما وأكرر ذلك ألف مرة في اليوم الواحد ما هذا الطقس الذي يبدو غريبا جدا؟! أتابع ما يحدث في العواصم والعالم ولكن خفاش جاري هو الذي يؤرقني أكثر…هذا الكائن الملعون الذي لطالما تقززت من منظره.. وينتابني ارتباك شديد وخوف متزايد…
في الليل يجافيني النوم، بل إنه لطالما خاصمني قبل ذلك، أفتح بعض كتب الفلسفة ثم أغلقها، وأتذكر أن درس الغد مع طلبتي سيتم عن بعد في ظل هذا الحبس الذي فرضه علينا وباء كورونا، وعليّ أن ألقيه وأنا أرسم على وجهي ابتسامات واثقة مطمئنة، أعرف أن الفلسفة نفسها لا تمتلك اليقين، هل أحدثهم عن اللامعنى الذي أصابنا منذ بداية هذا الحجر؟ هل أحدثهم عن الشك وعن ديكارت وأصرخ بأنني أشك في كل شيء ؟
بالفعل، لم أستطع النوم… يؤرقني، أيضا، أن الشقة التي تجاورني ينام فيها خفاش قد يكون أساء للعالم بأسره… نمت بصعوبة، بعد أن غليت بعض الأعشاب الزرقاء التي اشتريتها من المحل التجاري المجاور، وقرأت كل ما كتب على غلافها، وعقمت العلبة بالكلور والكحول، حتى أن طعم الأعشاب تحول إلى مذاق مر مقزز، لكنني تجرعتها وأنا أطل من نافذة شقتي على نافذة جاري الموصدة دوما…
هذا الرجل يزعجني بخفاشه الغريب هذا!
استيقظت على مضض، شربت قهوة سوداء، أكلت حبّات من اللوز والتمر وشرعت في العمل عن بعد وأنا أفكر في هذا العالم الذي انكفأ فجأة وانغلق فلم يعد يرى أبعد من الفيروس، أشعر بأنفاس مخيفة تطاردني وكأنها تستنشق معي الهواء نفسه حتى أنني تخيلت أجساما غريبة تتطاير فحملت رداء وأخذت أطاردها ذات اليمين وذات الشمال إلى أن انتبهت مجهدة أنني أطارد الفراغ…
أشعر بالخوف من الموت، صار البيت مثل القبر الرحيم الذي نختبئ فيه من شرور كل الأشباح، ولأن شعورى بالرعب يتنامى بسرعة، فقد تمنيت أن أحكي كل شيء عن حياتي الماضية.. وأن أنشر صوري على كل المواقع الالكترونية.. وأن أصرخ بأنني هنا… أريد أن أعيش!
الخفاش يلح علي…طرقت باب جاري، كان مرتاحا في لحيته الكثيفة، وكنت قد وضعت كمامة على وجهي وجئت لكي أصرخ في وجهه وألعنه لأنه يربي خفاشا في شقته، فوجدتني أسرح في عينيه الزرقاوين الصافيتين كلون البحر في صيف جميل، ثم أدخل إلى شقته حين فتح لي الباب وهو يدندن بكلام لم أفهمه.
فجأة، تسمرت قدماي، هل دخلت إلى شقة آدمي؟
في وسط الشقة، رأيت كهفا غريبا! وددت أن أساله هل قام بنقل هذا الكهف من مغارة ما، ووضعه هنا في هذه الشقة.
كان المكان كله غريبا؛ ففي وسط الشقة أشجار تفوح منها رائحة الحيوانات، وفوق الزليج الأبيض الجميل تراب منثور، وعلى أغصان الشجر أقفاص زجاجية بداخلها ثعابين محنطة وعقارب نائمة وحيوانات لم أعرف لها اسما، والخفاش الرهيب نائم بالمقلوب وكأنه جسد ميت… كان قد أرخى رأسه إلى الأسفل وقبض بمخالبه على لحاء شجرة، وأذناه متيقظتان تسبحان في ملكوت الله…حتى أنني وددت لو انقضضت عليه وغرزت سكينا في جسمه انتقاما لهذا العالم الذي فقد الطمأنينة وغذا مرعوبا لا يكاد ينام …
بقيت مشدوهة، وللتو شككت في أن يكون هذا الرجل حيوانا/ مسخا تحول إلى آدمي، نظر إلى دهشتي وقال لي :
– تفضلي، ولا داعي لتلك الكمامة…ستخنقك
أجبته بحدة:
– هناك وباء، وهذا الخفاش هو أصل المرض…
قال لي :
– لا تخافي يا سيدتي، أنت تعرفين أنه يقيم معي منذ سنوات.. هذا ليس مصاص دماء، إنه خفاش لطيف…
كنت ما أزال أمسح بعيني هذه المغارة التي ولجتها، ثم دون أن أسأل، قال لي:
– لا تستغربي، أنا طبيب بيطري، ومنذ سنين انعزلت عن البشر…
جالت عيناي في الغرفة الطويلة الممتدة وقد سكنتني دهشة المكان؛ فالجدران تغطيها قرون حيوانات غريبة تخيف الرائي وهي تصدر أصواتا تتزاحم لكي تخرج دفعة واحدة، نظرت إليه وقلت:
– أنا بكل تواضع، أستاذة للفلسفة أتقبل الآخر بكل تناقضاته… إلا أنني لا أستطيع أن أقبل وجود خفاش في الشقة التي تجاورني… أنا خائفة جدا، خاصة حين ظهر هذا الوباء وانتشر ليقتل الناس دون تمييز وبلا رحمة.
هبت على وجه البيطري ابتسامة جميلة، كنت في قمة الاندهاش لعدم تناسق ملامحه مع ديكور هذه المغارة، وقال لي :
– قهوة أم شايا؟
أجبت وقد بدأت أنسى كورونا:
– في زمن الوباء هذا؟ !
رد علي مبتسما:
– لا تخافي، المطبخ معقم والحيوانات نظيفة جدا…
أجبت وقد تذكرت صاحبنا النائم أمامنا؛ ( هل كنت نسيته؟)
– وهذا “الرجل” المقلوب أمامنا…
قال لي وقد زاد تبسمه:
– لا تنشغلي به، هذا مجرد خفاش منزلي..
قلت، وقد جلست على كرسي صنع من فرع شجرة:
– أريد شايا…
كان الشاي في لحظة وجيزة، قد وضع على مائدة قدت من شجرة عظيمة وكنت قد بدأت أستأنس بهذا المنزل الغريب وبهذا الكائن…
قال لي:
– أنا أعرف بأن هذا الحيوان لا ينبغي أن يكون هنا، لكنني لا أستطيع أن أستغني عنه…
مددت يدي إلى كأس الشاي الساخن، بدا لي أن الرجل قد قدم من أدغال نائية وأنه سيعود إلى سيرته الأولى وينقلب إلى حيوان، وأحسست للحظة برهبة وتوجس، لكنه، بوجه معتم حزين، وبصوت أقرب إلى الهدوء الذي استسلم مع العمر إلى اليأس الدفين، قال لي:
– ليس في الأمر سر يا سيدتي، كل ما حدث هو أنني كنت أعيش مع طفلي الوحيد منذ سنين بعد أن هجرتنا أمه مع صديقها إلى بلاد بعيدة، لكنه توفي بعد مرض ألم به ولم يمهله، وحين وضعته في القبر كنت أشعر بأن العالم قد أفل إلى غير رجعة، ولكنني حين عدت إلى المنزل وجدت هذا الخفاش قد مرق إلى المنزل من النافذة المشرعة، كنت يائسا وتائها، وكان هو يحدق في غير خائف وكأنه يعرفني من مدة..
قاطعته بهدوء:
– لكن الخفاش لا يرى…
قال لي واثقا:
– على العكس هو يرى بعينيه، يرى ويفهم…
ثم توقف قليلا، فبادرته بسؤالي عن القصة، استدار ناحيتي و قال:
– هذه أول مرة أتحدث عن هذه الواقعة لإنسان لا أعرفه…
قلت لك إنه ظل ينظر إلي نظرات غريبة، حتى أنني رأيت عيني طفلي في عينيه، في البداية، ارتعبت ثم قلت إن روح طفلي قد انبعثت في جسد هذا الخفاش، ومنذ ذلك الحين وهو يعيش معي في هذا المنزل، حتى أنني لا أرتاح إلا حين أراه وألاعبه…
بقيت مشدوهة، فلا العلم ولا الفلسفة ولا علم النفس، ولا الحياة نفسها… يقدمون لنا تفسيرا شافيا للنفس البشرية، يا للحزن الذي ولد كل هذا الإحساس! حتى أنا لا أجد لنفسي تفسيرا، فمنذ قليل كنت أود أن أخنق هذا الخفاش بيدي هاتين، لكنني الآن أحسو الشاي بهدوء ودون شعور بكل المخاوف والهواجس التي كانت تسكنني، حتى أنني لم أعقم الكأس الذي أتناول فيه الشاي…
كان الخفاش متدليا كمن شنق نفسه، وسلهامه الحريري يكسو جناحيه اللذين تمددا في الهواء وكأنه في مأمن من الغدر، وكان فمه الدقيق مغلقا وكأنه قد أطبق على أسنانه إلى الأبد، وكنت هائمة في كل ما يسرده الطبيب البيطري لا أكاد أعثر على السبب الذي يشدني لهذا الشخص.
في الليل هدأت مخاوفي دون أن أعرف لماذا، لم أعقم البيت ولا غسلت يدي بالصابون… لكن سيل الأسئلة لم ينقطع!
هل أكون قد استأنست بذلك الخفاش الذي بدا غارقا في أحلامه بينما العالم يئن من كثرة الموتى؟
لماذا خمدت هواجسي حتى وأنا أشاهد الكثير من الصناديق تعبر شوارع المدن الإيطالية والفرنسية والأميريكية… في سكون رهيب، ماضية إلى رقدتها الأخيرة؟
بعد قليل غيرت ملابسي، سرحت شعري ووضعت أحمر شفاه، وكنت قد هيأت وجبة عشاء شهية ثم طرقت باب جاري دون أدنى تردد…
فتح الباب، ابتسم حين رآني أحمل الطبق الساخن:
– ألا تخشين الخفاش؟
أجبته بهدوء:
– ما دام صاحبه سيدثرني بأجنحته …