
في صيف بروكسل الأزرق،
أزرقُ كلّ ما يمتُّ إلى الحياة بِصلة:
مِروَحةٌ مثلكِ، أو كائنٌ مثلي.
بينما في صيف كركوك اللاهب،
أتذَكَّرُ أنني اشتعلتُ مرةً
حين تدحرجتُ في نهاية الصباح من فوق سطحٍ من سطوحها،
انسكبتُ من الميزاب، وسقطتُ في إحدى آبارها متشبثاً ببراءة الفِراش.
كأيّ طفلٍ له رغبةٌ في التحول إلى تنينٍ صغيرٍ،
يحرقُ كلّ ما حولَه للتسلية،
أو أن يحترق هكذا بنار لعبته سهواً، أو عمداً،
قرعتُ براميلَ من النفط.
انتشيتُ من الحروب.
أتذكرُ أنني اشتعلتُ، تبخرتُ،
بل تساميتُ قبل أن أكتَمِل، ولَمْ أعدْ كما كنتُ.
هكذا وجدتُ نفسي
مغرماً بالانجذاب وبالانفلات، بالنظام وبالفوضى،
أتعرّق أمام مِروَحةٍ زرقاءَ،
وبيّ حنينٌ إلى أيّاميَ الصلبة.
أراكِ تتعطرين بالخوف كلما يَمّمتِ نحوي،
تتسورين به كلما اشتدتْ نشوتي.
رائحةٌ قادتني، وتقودني نحو الخفايا،
نحو المجاهيل التي تتسترين بها.
أراقب دورانكِ كباقي الأشياء المدمنة على الدوران من حولي،
وأمام هذا الدوران يصفرّ انتظاري الذي أُلهيه
بمزاوجة الطيور عنوةً، لاستنشق رحابة السماء وأستنشقكِ.
الأزرق يمنحنا الرغبةَ في الالتهام،
في التهامِ كلّ ما هو صالحٌ للحياة،
وترك ما هو غيرُ صالحٍ منه:
للمصابين بداء الموت،
للجثث المتشحمة في بيوتٍ تُشرَب فيها الروحُ بالشوكة،
للذين يكدّسون غرائزهم الإنسانية يكسوها الغُبار على الرفوف،
لكلّ هؤلاء الذين تحولوا إلى طاولةٍ متينة، أو إلى كرسيٍّ مزخرف،
الذين تحوّروا إلى براغٍ، بحكم دورة الإنسان حول نفسه،
وهو يحاول أن يُقَبّل مؤخرته إرضاءً لرغبة.
أتذكرُ أنني تذوقتُ أمامكِ مَرةً ملعقةً من الخراء، وأنا أكتبُ قصيدة،
ورأيتُ الضحكَ كيف يموت فيكِ من الضحكِ،
وتغادركِ الحياةُ في نهاية القصيدة.
أتتذكرين كيف شيَّعنا ضحكتكِ،
ودفناها تحت شجرة التوت الأحمر في نهاية القصيدة؟
شجرة التوت،
هناك في نهاية كلّ قصيدةٍ، ظلّت تحتفظ بضحكتكِ.
يومها، القصائد البرناسية كلّها وشّحَتْ ختامها بالسواد.
في الأماسي التي كنتُ فيها أغرّبُ وأشرّقُ، حسب ضرورات البقاء،
كانت ضحكات المَراوِح تستفيق في ما حولي،
توقفني في الغرفة على بعد خطواتٍ منها.
بوجهٍ مَشُوبٍ بالعناد، وبعيونٍ مفتوحةٍ ترفض ألّا ترى
أقف أمام كتيبةٍ من الضحكات تدربتْ على القنص،
وعلى الإسهاب في القهقهة.
أرفضُ، أنا الضحية، والجلّاد معاً،
أن أغمض عينيّ أمام ضحاياي وجلّاديّ.
ضحكة منفردة آمرة ممزوجة بحمرة أولى ساعات الفَجر،
يليها وابِلٌ من الضحكات الرقيقة
يُسقطني ببطءٍ على السجادة.
أُلَملمُ، قبل أن أستنفد ضحكتي الأخيرة،
خرزات الندم المنفرطة من نظراتي.
لا أرى لوناً للندم،
لكن الندم يراني كحزمةٍ من المفرقعات الملونة.
محكوماً بما هو مُعدٍ ومُميتٌ
كالإيدز، وكالتثاؤب، وكالحرية ومشتقاتها، وبأشياءَ لا قدرة لي على تسميتها،
أطبقُ غضبي على رقبة الموت.
غرائزي تفلتُ مني تباعاً، وتمارس الحُبّ على السجادة.
مُدمى الأنياب، تسيل من شدقيَّ حياةٌ راغبة،
أرقصُ للعالَم، وكأنني الناجي الوحيد.
اسمي كما هو مكتوبٌ على شاهد القصيدة.
زاولتُ مِهناً عديدةً:
بائع رؤوس الفلاسفة على الرصيف.
تزوير هويات لطيورٍ، ولخيولٍ مسروقةٍ، وأخرى هاربة من نفسها.
تهريب كُتبٍ لتعليم الثرثرة، وجوازاتِ سفر للغرق.
تهريب مسدساتٍ بلاستيكية، لا تجيد رشّ البحار على الحروب،
وملابس داخليةٍ للنساء مُزينة بفَراشاتٍ خالدةٍ ترفرف بأقلِّ نسمة.
سلخ الأفكار والمعتقدات، وهي حية.
إذابة المعادن الثمينة في جحور الأرانب.
تهريب أوراقٍ نقديةٍ مُزيفةٍ في شروج محاربين قدامى.
قارئ قصائدَ نثرٍ في المقابر على رؤوس القبور.
تلاوة أبياتٍ من سورة البقرة في صباحات عيد الأضحى
على قطيع الأغنام الراعية في براري سيّد قزي*.
كنتُ أُجيدُ تعريف السعادة عن ظهر قلب.
وبعد أن تعرضتُ لعضّةِ كلبةٍ
حاولتُ اغتصابها لكسب رهانٍ خاسرٍ،
تزوجتُ مضطراً دجاجةً نزولاً لرغبة الطبيعة،
وأمضيتُ سنينَ في قنّها. حينها كانتِ السعادة تَلدغ.
وآخر مهنةٍ زاولتُها لإسعاف ظمئي الأخْضَر كانت:
تفجير قصيدةٍ مِن على بُعدٍ بواسطة قَلبٍ مُسَيّر.
وفي بعض الأحيان كنتُ أخطئ في عملي كباقي الخلق،
وأفجّرُ قلباً مِن على بُعدٍ بواسطة قصيدةٍ مُسَيّرة.
مُتُّ مراتٍ عديدة:
مَرةً في تقاطع آرلوا* ومَرةً في مقهى لآنفو*،
ومَرةً وأنا أطَيّرُ الطيور العاجزة عن الطيران،
ومرةً متُ ميتةً رحيمةً، عندما جرعتُ نهر خاصه صو* وأغرقتُه في جوفي.
وآخر مَرةٍ متُّ فيها كان بسبب مبالغةٍ في التخيّل،
كنتُ أمارسُ مهنتي الأخيرة، وأحاول تفجير قصيدةٍ،
عندما رأيتكِ تسقطين من كياني من دون حُبٍّ، أو كرهٍ، أو أجنحة.
حينها نسيتُ تعريف السعادة، كنتُ أغشُّ في تعريفها؛
ففُصلتُ من الحياة.
أتعلمين أيتها المِروَحة،
أن لي رغبةً تدور في المدار،
أبداً لَم يخطر على بالها أن تكُفَّ عن دورانها،
حتى بعد أن أصبحَ قلقي شاحباً؟
شاحبٌ قلقي.
التكاملُ مثلثٌ متناثر الأضلاع كعُصفورٍ مبلّل،
القلقُ مثلثٌ مُتعَبٌ من أضلاعه الباهتة،
ويبدو أيضاً كعُصفورٍ مبلّلٍ، إذا دقّقتِ النظر فيه.
التكامل والقلق عصفوران مُبللان بالحرائق،
وتكاملُ الشيء يوحي بموت الشيء ذاته.
وأنتِ حبلى بالرياح مثلي، أيتها المِروَحة.
أخْضَرٌ ظمئي.
قَلَقي المُغطى بسَحابةِ جَمالٍ، لا رحمة له،
أمام رفرفتكِ الواهبة الطمأنينةَ، يتذبذب.
الطمأنينةُ راحةٌ خادعةٌ
تجعلكِ لا تميزين بين الكتاب والنافذة:
اسمعي هذه الحكاية،
حكاية روتْها مِروَحةٌ سقفيةٌ من العراق عاشت في نهايات القرن الماضي.
كنا نتدروش تحت رحمتها،
الخوف من أن نُثرم بين ريشاتها
يزيد من تمسكنا بالحياة، وبمتابعة الاستماع لها،
وهي تروي الحكايات بأذرعٍ تآكلتْ من الدوران:
“ذهبَ الفتى إلى الغابة، تَصفّح كتاباً.
احترقت أوراق الغابة في عينيه،
باضَ هُدّهُد في كفّيه،
ونبتَ من ضلعه برعم جَمَرة.
عادَ متأبطاً رمادَ سمائه في كيس: أُمي ها هي قصيدتي!
عليَّ أن أكون عبوةً ناسفةً في قلب الأرض، ووردةً أتوّج قلبها الحجري.
تخبّئ الأُم السماوات في صدرها،
تهرعُ إلى المطبخ، تتلو سورة الماعون،
تطبخ الهواء، وتحضّر بجِديةٍ الصحون المليئة بالأسئلة.
تفكر، كيف تَملأ بطن العشاء بالقصائد “.
لقد نجونا من الموت بالصُدفة أيتها المِروَحة،
الصُدفة وحدَها مَن وهبتْنا الحياةَ مراراً.
فقط كنا نتحاشى من أن نُطيل التأملَ في دخان سجائرنا،
كي لا تُبنَى منه على غفلةٍ من الخيالِ،
مدنٌ سوداءُ تُرسَب في الصدور في كلّ شهيق.
لطفكِ قاتلٌ أمام حمارٍ يأكل أضلاع جثة اليومِ بشراهةٍ، وغراب يتهيأ للاقتلاع…
غرائزي تتجنّح بقوس قزح، وتبتسم لهذه الأرض.
اقتربي أكثر، كوني أقرب لي من شهر آب.
في فضاء الغرفة ذبابة تبحثُ عن مَخرج:
كيف دخلتْ؟ كيف ستنجو؟
أسئلةٌ لا شأن لي، ولا شأن لكِ بها،
لكنها تُقلق كلينا، كونها تتعلّق بفكرة الفرار.
حياةٌ مالحةٌ أمامكِ تتعرّق،
أطنان من الملح المكوّم على جنبي السرير لا تكفي
لإحياء البِحار الميتةِ في عيون امرأةٍ في منتصف عمرها،
بنصف رغبةٍ تحاورُ بروكسلَ في منتصف الطريق، بعد منتصف الليل:
“بروكسل، أنا ضجرة “،
وتردّ قطةٌ من ليل بروكسل برغبةٍ متوارية:
“هناك فأرٌ في المقهى المجاور، تعالَي نتسلى معه،
علَّه يختار جحركِ الرَطِب مَسكناً له لهذه الليلة البروكسلية”.
تتحسس المرأة جحرها، وتتعاظم في عينيها مرارة البِحار.
كلّ هذا يجري أمام سكينتكِ الفرحة.
قلتُ سكينة فرحة؟! حافظي عليها من كلّ شرٍّ وقبح
في عالَمٍ بحارُه الميتةُ تَقذف بالأحاسيس الحيّة نحو الماضي.
هل يعني هذا لكِ شيئاً أيتها المِروَحة؟
أيها الماضي الذي يُزهِر رُعباً بنصف ابتسامةٍ
في سندانات مُزينة بقُبلٍ حارقة.
هذا الجسد المَثلوم كسكينٍ أعمى
يتعثر بريشاتكِ المنتوفة من الفرح،
هذا الجسد يتموّج غبطةً، كلما تحركتْ في أحشائكِ بذرة.
أيتها المِروَحة انفخي،
ميّزي الزيف من الحقيقة، وفي النهاية ابعدي كليهما عن مداركِ بنفخة.
رفرفي فقط على الأجساد التي تَهبُ كلماتها وترحَل.
أعيدي خَلقي من جديدٍ كائناً، هواءً لا محلّ له،
أُعلِّمُ الزواحف كيف يُخلَق الطريقُ من طين الحقيقة، وتبن المرارة.
أمّا الطيور، يكفي أن أقصَّ لها حكاية الفتى، ومِروَحته الزرقاء؛
لتظلّ تحطّ على شرفتي كلّ صباح.
سأخلقُ منكِ نسخاً بعدد الشهب في ليالي آب الزرقاء،
شهبٌ تخترقُ هذا الجسد الأزرق،
هذه الريشة المُملّحة.
أهبكِ كلماتٍ نَجَتْ من الموت بالصُدفة، ومن الحياة بالضرورة.
أروي زغبكِ بحياةٍ تذوقت من كلّ الفصول، وفضّل في النهاية فصلكِ.
هفّي بالحُبّ ما تحبين قبل أن يصيبكِ العَطَب،
ولا تنشغلي بشيءٍ في ما بقي من أيامكِ المعدودة.
الضحية المسكينة البائعة في ميديا ماركت،
أخبرتني بغنجٍ، وبميكانيكيةٍ مُفتعلة،
بأنها لا تضمن حياتكِ إلا لسنتين أرضيتين!
هذه الرأسمالية تلتهم حتى الحواس،
تُحوِّل الكائنَ ببساطةٍ إلى بُرغيٍّ، وتشدّه في ماكينة الاستمرارية.
من فمها تفوح رائحة أشلاء براغٍ مازالت حيّة.
رذاذٌ لزجٌ بعرَق البراغي يُقذَف من بين شفتيها،
عندما تُحدّد حياةَ كائنٍ برقمٍ مَيت.
أقسمُ لكِ بأن فرجها متعفّنٌ بفطريات القِيَم والأخلاق،
يسيل من شفرتيه لُعابُ البراغماتيين،
وتخترقه ناطحات السحاب من كلّ صوب.
أمّا أنا فسأقترب من الشّمس أكثر، إنهم يحترقون بالوضوح.
أمامكِ جسدٌ
يُشير بعقاربه إلى منتصف الظهيرة،
وإلى الحيوات التي تُفلت تباعاً من ثقوبٍ زرقاءَ في فضاء الغرفة.
لكلّ ثقبٍ مِروَحةٌ زرقاءُ، ولكلّ مِروَحةٍ زرقاءَ حياةٌ زرقاءُ تتموّج أمامها.
يقيني يتلاشى، وكذلك شَكّي
عندما تَهدين لي كلّ هذه الرياح دون مقابل.
سأردُّ لكِ هذا الجميل يوماً.
سأتموج فيكِ، وأكون مِروَحةً لجثتكِ، عندما يقتضي الأمر ذلك.
أيها البُرغي الذي أُحبّ،
أيها الماضي الذي يُزهِر رُعباً بنصف ابتسامةٍ
في سنداناتٍ مزينةٍ بقُبَل حارقة.
* سيّد قزي: في اللغة التركمانية، أي بنت السيّد. مرقد يقع في مقبرة المصلّى في مدينة كركوك.
* آرلوا: شارع في بروكسل.
* لآنفو: مقهى “الحمار المجنون” في بروكسل.
* خاصه صو: نهر كان يشق مدينة كركوك، وفي أيام الحصار الاقتصادي على العراق تحول إلى جدول رفيع وهزل كثيراً حتى انقرض بعدما أُصيب مؤخراً بالاغتراب.
آب 2018
بروكسل
عدنان عادل: شاعر وكاتب عراقي مقيم في بروكسل.
[email protected]