
ميا التي استغرقت في ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة، استغرقت في العشق.
عشق صامت لكنه يهز بدنها النحيف كل ليلة في موجات من البكاء والتنهد. شعرت مرارا بأنها ستموت تحت وطأة الرغبة في رؤيته، حلفت في سجودها في صلاة الفجر: “والله العظيم يا رب لا أريد شيئا…فقط أن أراه…والله العظيم يا رب لا أريده أن يلتفت لي.. فقط أن أراه..”. ظنت أمها أن ميا الصامتة الشاحبة لا تفكر في شيء في هذا العالم خارج حدود خيوطها وأقمشتها، وأنها لا تسمع غير ضجيج ماكينة الخياطة، لكن ميا كانت تسمع كل الأصوات في العالم وترى كل الألوان وهي لا تتزحزح طوال النهار وشطرا من الليل من كرسيها الخشبي قبالة الماكينة ولا تكاد ترفع رأسها عنها إلا لتناول المقص إو إخراج مزيد من الخيوط من سلتها البلاستيكية المحفوظة في جوف السحارة. أحست الأم بامتنان مذنب لقلة طعامها وتمنت في سرها أن يأتي من يقدر موهبتها في الخياطة وبعدها عن النهم ويزفها لبيته، وجاء.
كانت تجلس على كرسيها الخشبي خلف الماكينة في آخر الدهليز الطويل حين جاءت أمها متهللة ووضعت يدها على كتفها: “ميا…يا بنتي…ولد التاجر سليمان يخطبك” تشنج جسد ميا، أصبحت يد أمها ثقيلة بالغة الثقل على كتفها، جف حلقها ورأت خيوطها تلتف حول رقبتها كمشنقة. ابتسمت الأم: “ظننتك كبيرة على خجل البنات”، وانتهى الموضوع. لم يفتحه أحد ثانية. انشغلت أمها بإعداد ملابس العرس وتحضير خلطات البخور وتنجيد الوسائد ونشر الخبر بين الأقارب. سكتت أخواتها وسلم أبوها الأمر لأمها فهن بناتها في النهاية ومواضيع الزواج مواضيع حريم .
ميا تركت الصلاة سرا، قالت بصوت خافت: “يا ربي حلفت بك، حلفت لك أني لا أريد شيئا…أريد فقط أن أراه…حلفت لك أني لن أفعل خطأ ولن أبوح بما في قلبي. حلفت لك بكل شيء. فلماذا أرسلت ولد سليمان هذا لبيتنا؟ تعاقبني على حبي؟ لكني لم أبح له، لم أبح حتى لأخواتي…لماذا أرسلت ولد سليمان لبيتنا؟ لماذا؟”.
قالت خولة: “وتتركينا يا ميا؟” سكتت ميا. قالت أسماء: “هل أنت مستعدة؟”، وضحكت: “تتذكرين وصية أعرابية لابنتها العروس التي وجدناها في كتاب المستطرف في المخزن؟”، قالت ميا: “لم تكن في كتاب المستطرف”، غضبت أسماء: “ما أدراك أنت بالكتب؟..كانت الوصية في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف، الكتاب المجلد بالأحمر في الرف الثاني ..الأعرابية توصي العروس بالماء والكحل والاهتمام بالطعام والشراب”، قالت ميا ساهمة: “نعم وأن أضحك إذا ضحك وأبكي إذا بكى وأرضى إذا رضي..”، تدخلت خولة: “ما بك يا ميا؟ لم تقل الأعرابية ذلك..تقصد أن تفرحي لفرحه وتحزني لحزنه”، ازداد صوت ميا خفوتا: “ومن يحزن لحزني أنا؟”..بدت كلمة الحزن غريبة ونشرت جوا من الضيق بين الأخوات.
حين رأت ميا علي بن خلف، كان قد أمضى سنوات في لندن للدراسة وعاد بلا شهادة . لكن رؤيته صعقت ميا في الحال. كان طويلا لدرجة أنه لامس سحابة عجلى مرقت في السماء، ونحيلا لدرجة أن ميا أرادت أن تسنده من الريح التي حملت السحابة بعيدا. كان نبيلا. كان قديسا. لم يكن من هؤلاء البشر العاديين الذين يتعرقون وينامون ويشتمون. “أحلف لك يا ربي أني لا أريد غير رؤيته مرة أخرى”. ورأته، في موسم حصاد التمر مستندا إلى نخلة وقد خلع كمته لشدة الحر. رأته فبكت، انتحت عند أول الساقية وأجهشت في البكاء.
ثم أمعنت التركيز في روحه، استجمعت كل ذرة في وجودها وسمَّرتها في وجوده. توقفت عن التنفس وكاد قلبها أن يكف عن النبض من فرط التركيز، وجهت روحها بكل قوة باتجاه روحه، أرسلتها وهي غائبة تماما عن كل العالم المادي حولها، تشنج جسدها وكاد يتهاوى وهي تبعث إليه بكل هذه الطاقة الهائلة، وانتظرت إشارة منه، أي إشارة تدل على أن روحه قد استقبلت الرسالة، لكن أي إشارة لم تأت.
“أحلف لك يا ربي أني لا أريد غير رؤيته، بالعرق على جبينه مرة أخرى، بيده على جذع النخلة، بالتمرة يلوكها في فمه. وأحلف لك يا ربي لن أقول لأحد عن هذا البحر الطامي فيّ. وأحلف لك يا ربي أني لا أريده أن يلتفت لي، من أنا؟ بنت لا تعرف غير الخياطة، لست مثقفة كأسماء ولا جميلة كخولة. وأحلف لك يا ربي سأصبر حتى شهر عنه، هل ستدعني بعد الشهر أراه؟ وأحلف لك يا ربي لن يفوتني فرض ولا نفل ولن أحلم بأي شيء يغضبك. وأحلف لك يا ربي لا أريد أن ألمس يده ولا شعره. وأحلف لك يا ربي لا أريد أن أمسح العرق عن جبينه تحت النخلة”. وبكت، بكت كثيرا، وحين جاء ولد سليمان التاجر لبيتهم تركت الصلاة ثم عادت إليها بعد العرس، قالت لنفسها إن هذا جزاء يمينها، الله عرف أنها لم تكن صادقة في كل كلمة حلفت بها وعاقبها على خطيئتها.
حين حبلت بعد أشهر تمنت أن تكون ولادتها سهلة كولادات أمها. تذكرت كلامها: “كنت ألاحق دجاجة في الحوش لأذبحها لما فاجاءنا خالي على الغداء، وفجأة أحسست كأني انفجرت، تقلبت على الأرض من الألم وجاء أبوك بالداية مرية، ما إن رأتني حتى قالت: وقتها! أسندتني حتى دخلنا الغرفة فأغلقت الباب، أوقفتني على قدميّ ورفعت كلتا يدي لأستمسك بالوتد المثبت في الجدار بكل قوتي، عندما خذلتني رجلاي صاحت الداية مرية – الله يسامحها -: “يا عيب الشوم.. بنت الشيخ مسعود ستلد راقدة وما قدرت تقف”، فوقفت متشبثة بالوتد حتى انزلقتِ مني يا ميا في السروال وكدت تموتين مختنقة لولا أن حلَّت الداية مرية يدي وسحبتكِ..إيه والله، لم تتكشف عليّ ولم يرني مخلوق ..اذهبن أنتن إلى مستشفيات مسكد، تصبحن فرجة للهنديات والنصرانيات..إيه والله يا ميا ولدتكِ أنت وكل أخوتكِ واقفة مثل الفرس..الله يسامحك يا داية مرية..وأنا ممسكة بالوتد بكلتا يدي وهي تصيح بي : “يا ويلك لو سمعتُ صرخة..كل الحريم يلدن ..يا فضيحتك لو صحتِ..يا فضيحتك يا بنت الشيخ ..”، ولم أقل كلمة واحدة غير: “يا ربي”، واليوم يلدن راقدات وصراخهن يسمعه الرجال من آخر المستشفى ..ذهب الحياء ..ايه والله..”.
قالت ميا لولد التاجر سليمان حين أصبحت لا تستطيع النوم من تكور بطنها: “اسمع، أنا لن ألد هنا على أيدي الدايات، أريد أن تأخذني لمسكد”، قاطعها: “قلت لكِ ألف مرة اسمها مسقط”، أكملت كأنها لم تسمعه: “أريد أن ألد في مستشفى السعادة”، قال: “ويسقط ولدي في أيدي النصارى؟”، سكتت ميا وحين دخلت شهرها التاسع أخذها زوجها إلى بيت عمه في وادي عدي في مسقط حتى ولدت في مستشفى الإرسالية، مستشفى السعادة، بنتا ضئيلة.
فتحت ميا عينيها ورأت ابنتها بين يدي أمها. نامت وحين فتحت عينيها مرة أخرى كانت البنت ترضع من صدرها. وحين جاء ولد سليمان التاجر لرؤية المولودة قالت له ميا إنها تريد أن تسميها “لندن”، ظن أنها متعبة من الولادة وتهذي، في اليوم التالي عادت والبنت وأمها إلى بيت عمه وأخبرت أقاربه إن المولودة اسمها لندن. طبخت لها امرأة عم زوجها مرق الدجاج الطازج وخبزت لها خبز الرقاق وسقتها الحلبة بالعسل ثم ساعدتها في غسل يديها وجلست بجانب فراشها :”يا ميا يا بنتي”، قالت ميا: “نعم”، ربتت المرأة عليها وقالت لها: “مازلتِ مصرة على هذا الاسم الغريب للمولودة؟ أحد يسمي بنته لندن؟ هذه اسم بلاد يا بنتي..بلاد نصارى..كلنا متعجبون جدا، وأظن صحتك الآن تسمح لك بالتفكير مرة ثانية في اسم للبنت ..سمِّها على اسم أمك سالمة”. كانت الأم حاضرة فغضبت: ” ليش يا حبة عيني تريدي أن تسميها على اسمي وأنا حية أرزق.. تتفاءلي لي بالموت؟..من أجل أن تخلفني البنت؟”، استدركت زوجة العم: “حاشا لله ما قصدت ..كثير من الناس يسمون أبناءهم على اسم آبائهم وهم بخير وعافية..بعيد الشر عنك يا سالمة..سمِّها مريم أو زينب أو صفية..أي اسم غير لندن”. أمسكت ميا البنت ورفعتها في الهواء: “ماله اسم لندن؟ ..حرمة في بلاد جعلان اسمها لندن..”، قالت زوجة العم بنفاد صبر: “تعرفين أن هذا ليس اسمها. هذا مجرد لقب لقبَّها الناس به لشدة بياضها..وهذه البنت يعني..”، أنزلت ميا البنت إلى حجرها: “ليست بيضاء مثل عائلة ولد التاجر، لكنها بنتهم، واسمها لندن”.

قررت سالمة أن الوقت قد حان لترجع ابنتها وحفيدتها إلى بلدها العوافي لتكمل أربعين النفاس في بيت أمها وتحت رعايتها. قالت لزوج ابنتها: “اسمع يا ولدي يا عبدالله، هذه حرمتك تبكَّرت ببنت، والبنت بركة تساعد أمها وتربي إخوتها، نريد للنفساء أربعين دجاجة حية وزجاجة عسل من عسل الجبل الأصلي وزجاجة سمن بقر بلدي، ولما تكمل لندن أسبوع احلق شعرها وتصدق بوزنه فضة واذبح عنها شاة ووزع اللحم على الفقراء”. نطقت حروف “لندن” بتفخيم، تغير وجه عبدالله ولكنه هز رأسه وأعاد عائلته الصغيرة وحماته لبلدهم العوافي.
رواية “سيدات القمر” دخلت في القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر العالمية
وسوف تعلن النتائج يوم 21 مايو (أيار) 2019