
سوف نسافر بالقطار عندما أكبر إلى أبعد نقطة في العالم ونحدق بالجبال والمدن والسهول عبر النافذة، ونتحدث مع الناس في البلدان الغريبة. سوف نكون معاً على الدوام دون أن نصل الى نهاية الرحلة. المهم أنها تقرأ أربعة كتب في الاسبوع، وغالباً ما تكون خمسة. إنها تحب القراءة وهي شبه راقدة في السرير تحت الأغطية طوال الوقت بمنامتها الدافئة وبيدها كوب القهوة ومن حولها سجائرها الكثيرة. لا تشعر بحاجة الى مشاهدة التلفاز، وتكاد لا تذكره أبداً، رغم أن هذا الأمر قد يضايق يون. توقف سيارتها في الشارع لتسمح لسيدة عجوز تمشي الهوينى على الأرض المتجمدة بعبور الطريق. السيدة العجوز تسير بتثاقل ساحبة خلفها حقيبة تسوق كحلية اللون ذات عجلات. تفكر فيبيكه بالجو القاتم المتخم بالعتمة. تفكر بالمنحدرات البيضاء التي يصنعها الجليد على حواف الطريق وكيف تغطي بظلالها الداكنة كل شيء. تتذكر الآن إنها نسيت إشعال الأضوية الأمامية للسيارة. يحاول يون السيطرة على رفيف جفنيه، لكن كل محاولاته تبوء بالفشل. وتواصل العضلات المحيطة بعينيه اختلاجها دون توقف. يجلس على السرير ويتطلع إلى الفضاء المندلق خارج النافذة حيث تترسب اللاحركة هنالك وتغرق كل شيء يحيط بالمنزل في بحر من السكينة والهدوء. إنه ينتظر عودة فيبيكه إلى المنزل. يحاول الحفاظ على انفتاح عينيه والسيطرة على الاختلاج. يحدق بنقاط معينة خارج النافذة. يكاد الثلج الموجود في الخارج أن يصل الى ارتفاع متر تقريباً. في باطن الأرض، تحت بساط الثلج الأبيض ثمة فئران. فئران تعيش في الخفاء داخل ممرات وانفاق سرية عديدة. تتزاور فيما بينها، تدعو بعضها البعض إلى تناول الطعام ربما. عندما يجلس في انتظار سماع صوت السيارة يفشل دائماً في استعادة ذكرى ذلك الصوت ولايدري على أي شاكلة يبدو. يحدث نفسه قائلاً ” لقد نسيته!”. ثم يأتي الصوت على حين غرة. يحدث ذلك عادة عندما يكون قد توقف عن الانتظار والتفكير للحظة. ثم تأتي السيارة ويستذكر الصوت، يعرفه. إنه يسمعه من خلال معدته. يفكر قائلاً انها معدتي التي تتذكر ولست أنا. وبعد سماعه للصوت مباشرة، يتمكن من رؤيتها من احدى زوايا النافذة، إذ تلوح سيارتها الزرقاء خلف الحافة الثلجية أسفل الطريق. تستدير السيارة عندما تقترب من المنزل ثم تصعد المنحدر باتجاه البوابة. يبدو صوت المحرك، قبل أن يخمد وينكتم، مرتفعاً وشديد الوضوح داخل فضاء غرفته. ثم يسمعها وهي تصفق باب السيارة وتبدأ بفتح باب المنزل. يعد الثوان في انتظار أن ينغلق الباب ثانية. نفس الصوت يتكرر كل يوم. تدخل فيبيكه إلى الردهة حاملة أكياس التسوق. تنحني لفك أربطة جزمتها ذات العنق الطويل. يداها متورمتان من البرد. جهاز التدفئة في السيارة عاطل. أحدى زميلات العمل أقلتها بالسيارة في الاسبوع الفائت من المتجر إلى منزلها وحدثتها عن شخص قالت إنه يستطيع إصلاح جهاز التدفئة لقاء القليل من المال. تطرب فيبيكه لهذه الفكرة لكنها لاتملك الكثير من المال، وبالتأكيد لن تقوم بتبديد مالديها من مال على تلك السيارة طالما ظلت تعمل على النحو التي هي عليه وهو أمر يدعو إلى السرور بالنسبة إليها. تلتقط مظاريف البريد من على الطاولة الراقدة تحت المرآة. تشعر بشيء من التخشب في كتفيها. تقف الآن لتحرك كتفيها بعد يوم عمل حافل، تمد عنقها إلى الأمام وإلى الخلف، ثم تميل برأسها إلى الوراء وتطلق آهه تنم عن الارتياح. يفكر الآن انها موجودة في المدخل منهمكة بإخراج حاجياتها من الأكياس. يتخيلها تقف أمام المرآة تخلع معطفها وتفتش في أحشائه. لابد أنها تعاني من تعب شديد. يفتح علبة الثقاب ويستخرج منها عودين ويضعهما في محجري عينيه ليبقيهما مفتوحين في محاولة أخيرة للتخلص من الاختلاج. تقول له فيبيكه غالباً، عندما تكون في حالة مزاجية طيبة، إن الاختلاج سيختفي مع الوقت. عودا الثقاب المثبتان أمام عينيه يشبهان جذوع شجرية عملاقة لأنهما يجعلان الرؤية صعبة. يستحوذ عليه التفكير في لعبة قطار الدمى. لكنه يحاول التفكير بشيء آخر، و كلما حاول التفكير بشيء آخر يمرق أحد القطارات في رأسه ليمزق سلسلة افكاره. ينطلق القطار متلوياً كالسهم على السكة الحديدية، ويطلق صفيراً حاداً. يفكر في تدليك وجهها، وتمسيد جبهتها وخديها. لقد تعلما فن المساج في النادي الرياضي، على اعتبار أنه أمر جيد ينبغي تعلمه. تحمل الأكياس إلى المطبخ. تضع الرسائل على الطاولة وتبدأ بوضع الأغراض داخل الثلاجة. تضع على بعض الرفوف عددا من صفائح الطعام المعلب. كان زميلها المهندس العامل في الدائرة الفنية، الرجل ذو الشعر الأسود الفاحم والعينان العسليتان، يجلس قبالتها حينما كانت هي وأعضاء اللجنة يتدارسون الخطة الثقافية القادمة، وهو مشروعها الأول باعتبارها المستشارة الثقافية الجديدة. لقد أصرت على أن تكون صفحة الغلاف ملونة بالكامل، وهي صورة ملهمة لأحد الفنانين المحليين. تقف بجانب طاولة العمل الفارهة وتحتسي كوباُ من الماء. لقد سارت الأمور على خير مايرام وأبلغها زملائها لاحقاً إنهم كانوا يشعرون بسعادة غامرة لوجودها معهم. إنهم أناس يمتلكون رؤية صائبة لأنهم قالوا إنها تمثل تجسيداً حياً للإمكانيات الجديدة. ابتسمت لها تلك العينان العسليتان عدة مرات خلال قيامها بشرح العرض التقديمي، وعبر زميلها خلال مناقشة ملخص العرض عن اهتمامه الكبير بتزايد وتيرة التعاون البينية بين الأقسام والدوائر المختلفة. تدفع شعرها بيدها بعيداً عن وجهها وتجمعه فوق أحد كتفيها وتمسده مسرورة لأنه استطال أخيراً بعد طول انتظار. يسمع وقع خطاها على الأرضية فوقه. صوت حذائها المنزلي. ترتدي فيبيكه دوماً أحذية منزلية عندما تكون في البيت. أحذية صيفية ذات كعوب واطئة. ينتزع عودي الثقاب من عينيه ويحك واحداً منهما بجلد العلبة الكبريتي الخشن. لايشتعل العود. يريد أن يبقيه مشتعلاً حتى الانطفاء. تنورة وأحمر شفاه للعمل. عندما تعود الى المنزل تستبدل ثياب العمل بتراكسوت رمادي اللون بسحاب يصل إلى الرقبة. قد تكون منهمكة بتغيير ثيابها الآن. “إنه ناعم جداً من الداخل، تعال وتحسسه !”. أعطته شبشباً عندما انتقلا إلى هذا المكان. كانت قد عادت من العمل وفي يدها الشبشب مغلفاً بورق ذو نقوش زهرية. قذفت به إليه لكي يلتقطه وهو طائر في الهواء. شبشب من الصوف يصل إلى الكاحلين بعقب جلدية مثبتة بابزيمات معدنية، وعندما لاتكون الإبزيمات مثبتة في مكانها بشكل صحيح يصدر الشبشب صوتاً شبيه بصوت خلخال عندما يرتديه ويسير به. تضع فيبيكه قدميها على الطاولة. تنظر عبر النافذة. السماء مدلهمة. مصابيح الشارع مضاءة. تنسل أصابع النور إلى الفراغ الممتد بين المنازل التي تتمطى على جانبي شارع البلدية الرئيسي. يواصل الشارع سيره الوئيد نحو الشمال ليعانق أخيراً طريق الشاحنات العام. تفكر فيبيكه بالطريق. إنه أشبه بدائرة يمكن للمرء أن يسلكها بسيارته إلى وسط البلدة، ويجتاز مكاتب البلدية والحوانيت، مروراً بالمنطقة السكنية، ثم يستدير في نهاية المطاف ليعود إلى مركز المدينة من جديد. يجب أن نفعل شيئاً بخصوص قضية المعمار الشمولي. ثمة غابة ترقد في خلفية كل أتجاه من اتجاهات الطريق العام. تسجل على عجل بعض الكلمات المفتاحية على ورقة: الهوية، الكبرياء، علم الجمال، المعلوماتية. تدلف إلى غرفة المعيشة. ثمة بطانية مرمية على أحد الارائك. بطانية صوفية بدوائر بيضاء من جانب ورمادية من الجانب الآخر. تلتقطها وتسحب كرسياً ذو مساند. تجلس قرب النافذة بجانب جهاز التدفئة. تلتقط كتاباً من على الطاولة الصغيرة المدورة. جلد الكتاب الخارجي المشمّع يمنح أصابعها ملمساً مريحاً. تمسد الكتاب قبل أن تفتحه. تقرأ بضعة أسطر. تسترتخي في جلستها تاركة الكتاب المفتوح يستقر بين فخذيها. تميل بظهرها إلى الوراء. تغلق عينيها. ترى وجوه زملائها، ووجوه أناس آخرين كانوا يزورونها في مكتبها الذي أضحى مكتباً أنيقاً بحق. تراجع مع نفسها بعض الأحداث الماضية وتعيد تمثيل حركاتها الخاصة. يقف يون في مدخل غرفة المعيشة، يراقبها، محاولاً السيطرة على اختلاج عينيه. يفكر بأن يسألها عن شيء يتعلق بعيد ميلاده. غداً سيبلغ التاسعة من العمر، وهذا الأمر بالنسبة إليه لايحتمل التأجيل. إنها نائمة وثمة كتاب نائم في حجرها. لقد إعتاد على رؤيتها بهذه الوضعية. الكتاب والنور الساطع المنبعث من المصباح المنزلي. في تلك الوضعية غالباً ماتكون ممسكة بسيجارة مشتعلة يظل يراقب خيط دخانها المتلوي صعداً نحو السقف. ينظر إلى شعرها الطويل الفاحم المنسدل على ظهر الكرسي. تتجاوز بعض خصلاته محيط الكرسي، وتتحرك على نحو غير محسوس تقريباً “مسّد شعري يايون !” يستدير يون ليدخل المطبخ ويتناول بعض البسكويت من الخزانة. يدس قطعة بسكويت كاملة في فمه. يحاول امتصاص عصارتها على مهل دون الحاجة إلى تهشيمها. يهبط السلم ثانية عائداً إلى غرفته. يجلس على السرير ويصفّ قطع البسكويت على حافة النافذة. يتطلع إلى الثلج المتكدس خارج النافذة. يفكر بجزيئات الثلج التي تهطل على الدوام وتفترش الأرض مثل ركام أبيض ناصع. يحاول في دخيلته أن يحسب كم جزيئة سيحتاج ذلك الركام لكي يكون على ما هو عليه. لقد لقّنوهم في المدرسة اليوم شيئاً حول هذا الموضوع. قالوا لهم إن هذه الجزيئات تُدعى بلورات أو كريستالات وبأنها تكوينات فريدة من نوعها ولايمكن لأي منها أن تشبه الأخرى تماماً. اذاً كم سيحتاج المرء من هذه البلورات الصغيرة لصنع كرة ثلج واحدة؟ أو كم بلورة توجد في ركام الثلج الذي يغطي حافة النافذة من الخارج الآن، أو داخل ذرة ثلجية واحدة؟ تفتح فيبيكه عينيها. تراقب عبر النافذة الكبيرة لغرفة المعيشة أنوار سيارة حمراء وهي تختفي في نهاية الشارع. تتصفح داخل رأسها وجوه جميع من تعرفهم لتعرف لمن تعود تلك السيارة. تفكر بأنها ربما كانت سيارة المهندس، وقد تكون هي فعلاً سيارته. تعدل من جلستها وتتطلع إلى ساعتها ثم تتجه إلى المطبخ وتضع شيئاً من الماء على السخان. تشطر حبة بصل إلى نصفين. يبدأ الماء بالغليان. تحرك المقلاة بعيداً عن مصدر الحرارة وتضع فيها بعض النقانق. تفتح الثلاجة وتدس النصف الثاني من حبة البصل في الداخل. تدّور المذياع وتستمع دون اهتمام إلى لقاء إذاعي في الراديو. أصوات المتحاورين تتناوب لتصنع شيئاً أشبه بإيقاع أغنية. تفرغ محتويات أحد الصحون المتروكة على الطاولة. ثمة بقايا طعام ماتزال ملتصقة بالحافة، وشيء من الحليب مترسب في القعر. ماتزال مرتدية تنورتها القصيرة، وهي تنورة قديمة، لكنها تحبها لأنها تمنح فخذيها ومؤخرتها إحساساً بالدفء والنعومة. تنظر إلى الجوارب الطويلة وتشعر بأنها ترف لابد منه. معظم ماترتديه النساء من الثياب ليس سوى استجابة لحالة الطقس. سراويل سميكة ضيقة وسراويل إضافية من الخارج يخلعنها عادة في الحمام عند الوصول إلى المنزل. تفكر في دخيلة نفسها بأن العمر قصير جداً ولاينبغي إضاعته بارتداء ثياب غير أنيقة. لكن من الأفضل لها أن تتصالح مع البرد. تشطف الإناء تحت الصنبور، وتحك بقايا الطعام المتكلسة على الحواف بفرشاة خشنة. يتناول يون الطعام عادة بعد عودته من المدرسة. بسكويت ورقائق ذرة (كورنفليكس). يفتح المذياع عندما يتناول الطعام وغالباً ماينسى إغلاقه. تدخل الردهة أحياناً بعد العودة من العمل وتسمع أصواتاً خافتة تنبعث من المطبخ. تعتقد أنها أصوات بشرية لأناس يجلسون داخل المذياع ويتحدثون. انتهت المقابلة الجارية في الراديو الآن، وشرعوا يبثون أغنية. تعرف بالتأكيد من هي الفرقة الموسيقية التي تغني الآن. إنها واحدة من الفرق الموسيقية المشهورة. لاتستطيع في هذه اللحظة بذل أي مجهود لكي تتذكر أسم الفرقة. تراودها الرغبة في القراءة من جديد. ترغب في اقتناء كتاب جديد، كتاب كبير جداً، واحداً من تلك الكتب التي تجعلها تشعر بأنها أكثر حيوية وأكثر حركة ونشاط حتى من الحياة نفسها. تفكر قائلة لنفسها” أنا جديرة بهذا الشعور بعد كل هذا العمل المضني”. تتخيل أن يون يجلس الآن في سريره القابع قرب المدفأة الموجودة تحت النافذة. عندما يتمدد في سريره يكون بوسعه الشعور بسخونة المدفأة تسري على جانب واحد من جوانب جسده. في نهاية السرير ثمة رف مطلي بلون أزرق ترقد على سطحه بعض الحاجيات. مجلات، شريط لاصق، مصباح يدوي ومسدس ماء. يضغط على أحد أزرار الراديو المستقر على الرف. يدوًر الموجة حتى ينتهي به المطاف إلى شيء من الموسيقى. يحاول أن يميز الأنواع المختلفة للآلات الموسيقية المشتركة في اللحن: غيتارات هوائية؟ لايدري لكنه سمع أحدهم يقول ذلك. حسناً غيتارات هوائية. يتمدد على السرير ويغمض عينيه. يشعر عندما لايفكر بشيء محدد على هذا النحو بأن رأسه غارق في ظلام دامس، مثل غرفة كبيرة مطفأة الأنوار. تتذكر فجأة أسم الفرقة الموسيقية، حسب اعتقادها بالطبع. تتذكر مشهد حفل التخرج من الجامعة: طالب آخر، بظفيرة ذيل حصان كان قد راقصها على أنغام هذه الأغنية. كان يقف أمامها هازاً حوضه لكي يتسنى له ملامسة مؤخرتها بطريقة سوقية. ترسم الذكرى على وجهها شبح ابتسامة. تتناول من أحد الأدراج علبة من البطاطس الجافة وشوكة لالتقاط النقانق. تنحني بجذعها إلى الأمام وتنادي على يون. تعثر على وسادة لتضع عليها المقلاة. تراودها رغبة في اشعال الشموع، وتفتش داخل الدرج بحثاً عن شمعة. تتذكر أنها نسيت شراء شموع جديدة. لماذا لايأتي يون لتناول الطعام؟ تنادي عليه مرة أخرى، ثم تهبط السلم وتتجه إلى غرفته. إنه يحلم بلعب كرة السلة مع بعض من أقرانه. الجو مشمس ودافئ، وهو يحرز الكثير من الأهداف ويشعر بالسعادة. يهرول إلى المنزل ليخبر فيبيكه. يغادر المطبخ على مهل ويبدأ بالحديث معها، لكنها تبتسم له بشكل شديد الغرابة لدرجة تجعله يغير اتجاهه ويهبط السلم عائداً إلى غرفته. ثمة امرأة تشبه فيبيكه تماماً تقف خلف عطفة السلم بالضبط. يتجمد في مكانه بلا حراك ثم يستيقظ ليجد فيبيكه تقف في المدخل، يحيط بها من كل الجوانب نور ما. تخبره بأن الطعام جاهز وبأن عليه أن يأكل. يتبعها يون إلى الطابق الأعلى. يجلسان إلى طاولة الطعام. تطفئ فيبيكه المذياع وتتصفح الرسائل. أثناء تناولهما للطعام يشاهد يون مجموعة من كراسات الدعاية الخاصة بمتاجر بيع الأثاث ومحلات السوبرماركت. على أحدى الصفحات يلوح عنوان: FUNFAIR يسألها ماذا مكتوب أيضاً. تخبره بأنه مهرجان للتسوق الجوال قد تم افتتاحه على أرضية الملعب الرياضي القريب من بناية البلدية وفيه يمكن للمرء أن يستمتع بجولات ترفيهية على متن آلات سفن الفضاء الخارجي، وآلات الطرد المركزي. تقول له أن مهرجانات اللهو المتنقلة لاتناسبه. يسألها يون إن كانوا يملكون ” مشبّهات” ثلاثية الأبعاد. لاتعرف فيبيكه معنى المشبّهات. يقول لها إن المشّبهات هي سفن فضائية وأشياء أخرى من هذا القبيل، أو ألعاب كومبيوتر من النوع الذي يجلس فيه المرء داخل ماكنة لينطلق بمركبته الفضائية إلى عمق الفضاء ويتغلب في ذات الوقت على الكثير من العوائق والصعاب التي تعترض طريقه. تقرأ فيبيكه الإعلان مجدداً، لكنها لاتعثر فيه على أي ذكر عن المركبات الفضائية التي يتطلع يون إلى قيادتها. يتصفح وجهها وهي تلوك الطعام وتقلب أوراق الكراس الدعائي. يسمع صوت أسنانها وهي تقضم جلد النقانق المشدود. يستعد لتناول قطعة أخرى من النقانق. تتكدس النقانق في معدته مثل جذوع أشجار في غابة، بإمكانك دائماً أن تحشر جذعاً آخر مع بقية الجذوع. ثمة درب في الغابة، ينطلق من مكان خفي وسري، لو عثرت عليه فسوف أتتبع آثار قدميك عبر الأشجار والورود ومستعمرات النمل حتى أصل في نهاية المطاف إلى قلعة نادرة جداً فيها ثلاثة صبايا رائعات، جميلات وشقراوات ينتظرن قدوم الأمير، يحلمن بعودته، ويترنمن بلحن جنائزي حزين. كيف تبدو الحياة هناك داخل تلك القلعة؟ ظل هذا السؤال يصاحبها دوماً بعد فرار الأميرة وسكناها في تلك القلعة الغريبة. يتذكر يون جلوسه في حجرها، ويتذكر أنه وصف لها مرة غرفة كبيرة واسعة بنوافذ مفتوحة وستائر طويلة مهلهلة وشموع مضاءة وسجاد ناعم. كانت تقول له “لديك ذوق رائع يايون، انا أعشق الغرف الكبيرة ذات الفضاءات المفتوحة”. يتطلع يون خارج النافذة إلى البيت المقابل لبيتهم. منزل يملكه جارهم العجوز. مدخل المنزل لايزال ينوء بحمل ثقيل من الثلوج التي تغطي المدخل بأكمله من أقصاه إلى أقصاه لأن العجوز لايملك سيارة. يزيح العجوز الثلوج المتراكمة في المدخل بجرافة يدوية ليشق لنفسه طريقاً إلى المنزل. وعندما يذهب لشراء بعض الحاجيات من السوق يستخدم زلاجة خشبية بلا عجلات يدفعها بقدميه بحركات شديدة البطء عندما شاهده يون في إحدى المرات يتوقف عن المسير ويجلس على مقعد الزلاجة لكي يلتقط أنفاسه. لكنه منذ بضعة أيام لم يشاهده يغادر المنزل. لابد أن البرودة كانت شديدة خلال الأيام الماضية لأن الطريق الذي شقه العجوز لنفسه قبل أيام كان يبدو مدفوناً تحت تل أبيض من الثلج المتراكم في المدخل. جاءت السيدة التي تعمل في المتجر بشاحنتها الصغيرة إلى منزل العجوز وتركت محرك الشاحنة يهدر. شاهدها يون تدس بكيسين من المشتريات عبر فتحة الباب وتعود إلى شاحنتها الصغيرة المركونة على الطريق. تمد فيبيكه يدها إلى الأمام لالتقاط فطيرة أخرى من فطائر البطاطس. أصابع يدها طويلة. تتابع بعينيها مسرى العروق الظاهرة على يدها. الهواء الحبيس داخل المباني يسبب لها الجفاف. لاينفع في الحقيقة أي شيء لعلاج الجفاف غير مرهم الفازلين، ثم هناك مشكلة أظافرها وشعرها. إنه البرد الذي يسبب لها كل هذه المشاكل. لايبعد منزلها كثيراً عن مركز المدينة، ومع ذلك تشعر بأن دهراً كاملاً قد أنقضى منذ أن عادت من هناك. تحاول أن تتذكر متى عادت بالضبط إلى المنزل من هناك. يبدو لها أن ذلك قد حدث منذ مدة قد تربو على أسبوعين تقريباً، أي قبل سبتين، عندما عادت من متجر الكتب طبعاً. تناولت في إحدى المرات هي ويون فطيرة في مكان لايسمحون فيه للزبائن بالتدخين. ماذا بعد ياإلهي؟! ياله من مكان! حجرة شاي بلاستيكية. لايوجد في المدينة كلها مقهى واحداً يتمتع بتصميم لائق، كل المقاهي تشبه بيوتاً بغرف استقبال غير رديئة. كف عن فعل ذلك الآن يايون! فكرت بأنها لم تشتر أي ثياب جديدة منذ مدة. بإمكانها الآن شراء بعض الثياب الجديدة. لاشك في إنها تستحق ذلك الآن ، لقد أصبح شراء الثياب أمرأ وارد جداً خصوصاً بعد كل تلك الجهود المضنية التي بذلتها عند الانتقال إلى منزلهما الجديد “توقف عن تضييق مابين عينيك هكذا طوال الوقت يايون لأن ذلك يجعلك تبدو مثل فأرة!” تفكر بالتنورة الضيقة ذات اللون الكاكي الفاتح التي شاهدت إحدى النساء ترتديها في إحدى الندوات. ينظر يون إلى أحدى الصور المعلقة على الجدار القريب من النافذة. صورة جوية للبلدة موضوعة داخل برواز أسود. لقد وجدا هذه الصورة مع صور أخرى على جدران منزلهما الجديد عندما انتقلا إليه. يواصل يون النظر إلى الصورة ويتناول أصبعاً آخراً من أصابع النقانق. تنتظم البيوت داخل البرواز في صف واحد على طول الشارع الشبيه بسهم. لافرق بين الأمس واليوم في الصورة، إلا في آثار الزمن التي تضفي عليها سحنة من الاصفرار، رغم أن التفاصيل الفوتوغرافية للبيوت الموجودة فيها قد تبدو أكثر حدة في زمن الالتقاط. يفكر يون بتلك البيوت ويحاول أن يتخيل شخصيات ساكنيها في لحظة التقاط الصورة. إنه يعرف أين تقع البيوت التي يسكنها رفاقه في المدرسة الآن، لكنه يشعر لو إنه أطال التحديق في الصورة فسوف يخرج جميع سكان تلك البيوت من منازلهم ويتحركون هنا وهناك كما يحدث في أفلام الكارتون. يفكر بطقم الطائرة الحربية الذي تلقاه أحد رفاق صفه كهدية في عيد ميلاده قبل اسبوعين. يرغب يون بالحصول على قطار من نوع ميركلين. ينبغي الحصول على بعض القطع كبداية، مع تصميم بسيط. لكن الأهم من ذلك كله هو القاطرة، إنه يحتاجها بشدة. يخبئ في محفظته دفتر يانصيب من النوع المخصص لدخول النادي الرياضي وعندما سينتهي من الطعام الآن سوف يطوف حول المنزل الموجود داخل الصورة ويحاول بيع التذاكر. تنهض فيبيكه وتحمل الصحون إلى المطبخ. يقرفص يون على كرسيه ويمد جسده عبر الطاولة. تلاحظ فيبيكه أنه يحاول الوصول إلى قطعة أخرى من بقايا النقانق باستخدام الشوكة كملقط. يسرد عليها نكتة ألّفها بنفسه حول رجل يلقي بنفسه من النافذة لكنه لايصل الى الأرض أبداً. لاتفهم ماهو المغزى من سرده لهذه النكات التي بلا معنى. يمسك أخيراً بقطعة النقانق، يقسمها إلى نصفين ويقدم لها واحداً. تبتسم. إنهما يتقاسمان دائماً آخر قطعة الطعام بهذه الطريقة ويلتهمانها معاً، وبعد أن ينتهيا من ذلك يرخي يون رأسه بين مرفقيه ويحدق في الفراغ وكأنه يجلس في انتظار حدث ما. يحدثها عن صورة شاهدها في أحد المتاجر تمثل مشهداً للتعذيب. رجل معلق فوق الأرض، رأسه ملفوف بكيس وذراعاه مقيدتان إلى عمود. يقول يون إن زمناً طويلاً قد مضى على ذلك الرجل وهو معلق هناك لدرجة أن ذراعيه تكادان تنفصلان عن جسده. تفكر فيبيكه قائلة لماذا لاتذهب بحق السماء، لماذا لاتبحث عن شيء تفعله، لماذا لاتخرج للعب قليلاً؟ تقول له ” إنه لشيء جيد أن تفكر بالمعذبين. لو أن جميع الناس يفكرون مثلك لأصبح العالم أفضل قليلاً مما هو عليه الآن ربما”. تمد يدها إليه وتمسد شعره “هل قابلت أصدقاء جدد هنا؟”. شعره جميل وناعم. تقول له ” يون .. يون يا صغيري الحبيب”. تعيد الكرّة مرة أخرى وهي تنظر إلى يدها. لقد طليت أظافرها بلون بني فاتح ذو مسحة وردية. لاتحب لفت الانتباه لنفسها في مكان عملها. تتذكر تشكيلة المكياج الجديدة ذات المظهر الخوخي أو النبيذي ربما التي ماتزال ترقد داخل حقيبتها اليدوية والمكونة من أحمر شفاه ذو سمرة شهوانية وطلاء أظافر بنفس اللون. تفكر مبتسمة لو إنها استخدمت الطقم الجديد سيبدو شكلها ملائماً لسمرة الرجل ذو الشعر الأسود والعيون العسلية. يجلب يون حقيبته المدرسية من الردهة. يخرج من تجويف صغير في مقدمة الحقيبة يحتفظ فيه غالباً بعلبة طعامه دفتر أوراق اليانصيب. يرتدي جوارب إضافية و يشد سيور حذائه الرمادي ذو العنق الطويل، يرتدي معطفه ويلف نفسه بوشاحه الأزرق ويضع قبعته على رأسه. يعاين نفسه في المرآة. يحاول أن يقف على أطراف أصابعه لكنه يفشل في ذلك. يفتش في جيوب معطفها ويعثر على بعض النقود وسط ركام من الوصولات وتذاكر الحافلات. ينادي بصوته عبر الردهة قائلاً إنه متوجه إلى الخارج. يفتح الباب الخارجي ويتوقف لحظة فوق عتبة الباب، وعندما يسحب نفساً عميقاً يشعر ببرودة الهواء القارسة.
عن الكاتبة:
هانا أورستافيك: كاتبة نرويجية من مواليد 1969، بدأت حياتها الأدبية في عام 1994 برواية (قطع) Hakk لكن شهرتها تستند أساساً على روايتها (حب) Kjærlighet التي أصدرتها عام 1997، وهي قصة حياة أم من زماننا المعاصر تتميز بشخصية نرجسية وتسلطية تؤثر سلباً فيما بعد على حياة طفلها الوحيد. تتميز أورستافيك بصوت أدبي متميز وهي تتابع مصائر شخوصها الأدبية التي تحتل النساء مركز الصدارة فيها إلى زوايا الحياة المظلمة المعبأة بالغضب واليأس من خلال بحثها الدائم عن الأصالة والمصداقية في الحياة. نشرت أربع روايات نالت إعجاب النقاد وتتمتع بجمهور عريض من القراء المتابعين لنتاجاتها الأدبية. نالت عدد من الجوائز الأدبية منها جائزة براگه الأدبية المهمة.
الترجمة عن الانكليزية
علي سالم: مترجم عراقي مقيم في لندن.