غايات يحيى الشيخ

من أعمال يحيى الشيخ

عاشور الطويبي

لاشيء إلا ويقف على شيء. صغر ذلك أم كبر. الطين الذي تتشربه المياه يتحوّل إلى نباتات، حشرات، حيوانات وإلى بشر. الهواء في حالاته المختلفة، يضخّ الحياة في الكائنات. يضخّ الحياة في المياه العذبة والمياه المالحة. الحياة في ثوب عفّتها، سبحت من الماء إلى التراب اليابس، فخرجت حيوات بعدد حصى الكون، ثم تطلّعت بعيونها إلى السماء، ملأت رئاتها الجديدة بالهواء. منها من حلّق في الهواء الفسيح، منها من حطّ على أغصان الأشجار، منها من مدّ سيقانه وركض بكلّ قوته، منها من حفر أنفاقا بحسب سعته في الأرض، منها من وقف مستقيما على الأرض، حدّق مليّا في السماء. قال: هل أنا مِن هناك؟! أين سكّان السماء؟ وفاضت روحه بالأسئلة.
مِن أين وإلى أين؟! لماذا كلّ هذا التشابه ولماذا كلّ هذا الاختلاف؟! لماذا تموت الكائنات؟!
لماذا تحيا الكائنات؟! هذا ما يسأله الكائن الفذ. منذ أن عرف التدوين. منذ أن عرف الكلام. منذ أن عرف أن الشمس تأتي من المشرق وتذهب إلى مكان وراء المغرب، يجرّ الليل وراءه.
ليلٌ بكائناته، بأصواته، بأرواحه، بصقيعه وخوفه.

مثلما تسكن الكلمات ألسنة الناس، تسكن الخطوط والدوائر أسرّة الصخور. مثلما يضجّ البحر بأمواجه التي تدفعها الريح إلى مستقرّ لها، يضجّ القلب والوجدان بالأسئلة إلى حيث لا مستقرّ.
منذ أن جلس الانسان في كهف ما، في جبل ما، أو في حفرة على بطن سهلٍ، أو فوق شجرة ما، في غابة ما، أمامه تمتدّ صحراء بكثبانها، أو مفازة، خلفها مفازة، أو بحر شاسع لا يرى منه إلا خطّ أُفُق أزرق رقيق، عنده يلتقي الأعلى والأدنى، الهواء والماء، السماء والأرض. مدّ يده وخطّ أشكالا على الحجر. هذه الأشكال والتخطيطات تنطق بما حفظته ذاكرة الحواس البكر، بما تعرّف عليه، وبما نسيه وهو يركض خلف فريسة أو أمام وحش. عن ذاك الذي يملك كلّ شيء. جبّار، رحيم، قادر، سميع. وحيث أنه لا يملك من وسيلة لرؤيته/رؤيتهم، خلق لهم من خياله أشكالا، يسمّيها بأسماء، ويهبها ما يرغب فيه من قوى وقدرات. كان يعلم أنها تسكن هناك في الأعلى، في المكان الذي يسميه السماء. وأنّ هناك خير. ثم وضع مثلها، في دياجير الأرض، وأنّ هناك شرّ. ثم رأى حوله الكائنات تفنى، فكره الموت وطمع بالخلود. ثمّ عرف أنه لا مفرّ من الرحيل إلى الضفّة الأخرى. كان اليقين دليل الراحلين أبدًا. عرف أنّ هذه الحياة الدنيا مكان لقاء للأعلين الخيرين والأسفلين الشريرين. كيف يحصل على عطف ورحمة الأعلين وكيف يبعد عنه شرّ وعداوة الأسفلين؟!

زورق من ماء وطين، هذه عدّة الكائن صانع الكلمات. في كلّ جبل، منعرج عليه يصعد صاحب العينين الدامعتين. في كلّ سهل، منحدر عليه ينزل صاحب الجلبة. الكائن الفذ، يبحث في الآفاق عن مسلك يفضي به إلى حيث يجلس صاحب الديوان على الماء وحوله جميع الخلق.
قيل في المرآة المقلوبة: الصعود إلى أعلى نزول، والنزول إلى أسفل صعود. اختر أين تكون:
داخل المرآة أو خارجها. الكائن الفذ يقول: أنا في الأعراف، حتى لا صعود ولا نزول.

لم أخفْ حين رأيتُ نفسي طائرا في منقاره سهم وفي قدميه قوس. نظرت إلى تحت فعلمتُ أنّي في مكان عليّ. كانت الجبال الشامخة كحبوب ذرة ناضجة تلمع قبابها بضوء شمس لها عين بيضاء، عين حمراء، ولها حجاب. كانت البيوت كحصباء قفر قصي. كانت البحار كعيني قطة في ليل.
ما الذي سأفعله بقوس ونشّاب؟! عليّ أن أعلو وأعلو وأعلو….

الحجر كائن ينبض. كائنٌ ضاع منه لسانه. كائنٌ ضاع منه بصره. كائن يسمع نقرة الدفّ في الغابة وحشرجة الأرواح في برزخها. كائنٌ جلّ همّه أن يخلد في السكينة بلا اسم وبلا صوت. الحجر رفيق الطائر. ما حطّ طائر إلا على حجر وإن كان مخفيا.

ما تساقط عرق الكائن على أرض إلا نبت منه خلق بعضه يشبهه وبعضه لا يشبهه.
ما تساقطت آهات الكائن على أرض إلا نبتت منها ألسنة تنطق بكل لغة.
ما تساقطت أحلام الكائن على أرض إلا نبتت منها حيرات ومتاهات.
ما تساقطت أصوات الكائن على أرض إلا نبتت منها أغنيات وألحان.
يحيى الشيخ بارع في قطف الخطّ البدائي. لعلّه هو من حمل الحجر ووضع الخطوط. في سمائه تنهض الدوائر من أبراجها. يعلّق السماء بين قرني ثور. أليس كل شيء يبدأ من نقطة وينتهي في نقطة.
لعلّه من أختار أن يتخلّق بأشكال الكائنات. في الهواء يُجلس السحرةَ، في أيديهم الأقلام، أنفاسهم باردة، وعيونهم تقدح شررا. على صدورهم تلتفّ قلادات من حجارة كريمة، ضوؤها يُرى من بعيد. في الماء، يترنم الكهنة بالأناشيد المقدّسة. ما بزغ نور شمس على سطح، إلا خرج من البحر قضيب يصبّ منيّه على يابسة عطشى، فتحبل أرض، من فوقها أرض ومن تحتها أرض.
في التراب، ينسلُّ وهم الكائن الفذ، وفي كلّ خطوة يتفجّرُ نبعُ ما اغتسلت فيه نَفس كائن إلا خلّدت. لكن، من أين تأتي نار الخلق؟
تأتي من أصابع الكائن الفذ.

يحيى الشيخ ماهرٌ في قطف النغم الأزلي. لعلّه من نفخ في اللحن الشجي نار الأبدية!
كيف تمسك بالثور؟ مِن قرنيه، بيدين ثابتتين. هناك، غير بعيد وقف الثور المنقّط، يقطر من جسده الدم. هناك، غير بعيد، استلقى الرجل، يلفظ أنفاسه. هناك، غير بعيد، لمعت نجمة في الأعلى. هناك، صهلت أفراس في برّية، ارتدى رجل امرأته، أزهر سهل وفاح بغاباته جبل. هناك ركض نهر وراء حلم غامض.

جاء يحيى الشيخ من ذاكرة الماء والطين الأزلية. جاء من العراق العظيم. جاء من طهر قديم نادر.
مرّ بالتحولات الكبرى في شرنقة العناصر. بحنكة الصانع الماهر، عرف كيف يرتّق ثوب الآلهة.
عرف كيف يوقد في أفران الفكرة نار السؤال. عرف أن الإجابة عاقر وأن الطريق إليه يبدأ من حصاة ملقاة في التيه.

يحيى أنجز غاياته بعد أن نثرَ في البراري غايات الكائنات. أغرقته غاياته. أخذته إلى وديانها
أخذته إلى غاباتها. أخذته إلى سهولها وجبالها. أخذته إلى حيرة عظيمة. أخذته إلى نواح طويل مرّ.
أخذته إلى ضحك لا يتوقف. أخذته إلى روح سيّالة. أخذته إليه في نهار وليل.
في هذا المنجز التشكيلي المعرفي الكبير، يضع يحيى الشيخ أمامنا غاياته في ثنائية عجيبة فريدة:

نهارية، أرضها بيضاء، أديمها أسمر. يطرح قلقه، مرضه، خوفه، فقره، شوقه، حبّه، كراهيته.
هو العاجز عن الفعل، يحصن بيته بالكلمات المقدسة. يضع أمام مخاوفه أحجبة لا عدّ لها.

ليلية، الخفاء، العتمة، العمى. ليل يكون فيه: الحارسُ الكنزَ، البحرُ السفينةَ، الماءُ الشجرةَ، الجبلُ التنّورَ، المفازةُ الخنفساءَ، الفرسُ الفارسَ، النسيمُ الأغنيةَ، الصيّادُ الطريدةَ. يكون كلُّ شيء لا شيء. يكون المخلوقُ إله الكلمات.

غايات يحيى الشيخ، غايات الكائن الفذّ
سمّه ما شئت، حسبُه أنّه ماضٍ إلى خليّته الأولى، وحسبُه ذلك فخرا.

شاعر ومترجم ليبي، النرويج
[email protected]

SHARE