عبد الكريم العبيدي: ليلة الغشاوة، مقطع من رواية

عبد الكريم العبيدي

هذه ومضة شكٍّ مُتَجَهِمة، ظنٌّ شيطانيٌ موسوس، يتفنن في إظهار الهالات الحمراء، حول جَنَبات ليلة معتمة جديدة، تشبه جنيناً غائماً بلا ملامح، ما زال منتمياً إلى أطوار ما قبل نفخ الروح.

أظنّها لحظة شاردة منحوسة، دُفقة شعورية أولى شديدة التعقيد، صنعها الإحساسُ المتشبث بالفجيعة، وضَبَطَتْ مجاهيلَ هذيانها الأقدار، تعكس إشارة ذبذبة خطيرة في تخطيط كهربيَّة القلب أو ما يعرف بـ “ECG”، وتدلُّ على وجود تشوهات في لُبِّ الليل، اضطرابات متقطعة في أوصاله، تنذر بخطر محدق، قد يبسط سطوته على سكرات موت هذه الليلة، ويشير إلى مشهد مغادرة الروح.

هكذا تمر التصورات العجفاء سريعاً قبالة جُحْرك، تجري تباعاً، في مقصورات قطار الظنِّ، كأنَّها خيول إلهام مُجنَّحة، تدكُّ حوافرها المتلاحقة هضاب فكري المشوَّش، وتصهل بخفوت، رافعة رايات المبرهنات التي تمخضت بالتدريج وولِدت حلَّاً، حلٌّ قد يرضيني أو يرضيك، قد يرضينا معاً، وربما لا يرضينا. ما زلنا يا صاح في شراهة الانتقام، ما برح كلٌ منَّا يبكي على ليلاه، ويؤثث عزلته بالأوهام، ظنَّاً منه، أن النجاة إنَّما هي الهرب. إف… كم أعيتنا ضلالتنا! كفانا هرباً، كفانا هزائماً. كل ُّ تلك الوحوش التي عزفت سيمفونيتك، وقاسمتك احتساء كؤوس الدم، هي مخلوقات مهزومة مثلي ومثلك. جميعها الآن، في هذه الليلة الموحِشة، تصغي إلى لحن العقاب، وتتقاسم سلطة الوقت، وتنتظر لحظة تنفيذ حكم القصاص.

هل يرعبك هول تلك اللحظة، لحظة تنفيذ القصاص؟

الأكثر رعبَّاً من الموت هي لحظات انتظاره. أمرٌ مؤلم للغاية أن تشتبك ذاكرتك بمخيلتك، أن تشعر بتسارع خليط معقد من المشاعر والصور، يرافقها وهم قرار إرجاء مفاجئ، أو حلول معجزة خارقة. كم هو شعور انفعالي سلبي، تعذيب شديد القسوة، أن تنتظر الموت. يا له من سيناريو موحش وبغيض، تتخلله مشاهد بكاء وصراخ وتوسل، ولكن بلا جدوى. ستعجز ساقاك عن حملك، وتتبول أو تتبرز لا إرادياً من الخوف، وتُصاب بنوبات سخونة متعاقبة، تُسَبِّبُ زيادةً في نسبة التعرق المفرط، حتى يغشى عليك. انَّها رهبة السير إلى منصة الموت، إلى تلك اللحظة التي يغدو وجهك فيها محتقناً مع زرقة في لونه، ويتدلى لسانك خارج فمك، وتبقى ترفس بقدميك. لن تجد أيَّ فرصة للصراخ، ستتعرض لآلام جمَّة، تجحظ عيناك، وتنازع البقاء طويلاً، قبل أن يسري الموت في عروقك، وتلفظ أنفاسك الأخيرة.

آه… أسمع صرخات استنجاد واستغاثة من داخل جُحْرك، ها أنت تتعرض للجاثوم مبكراً، تشعر بحضور شيطان رابض على صدرك. جِنِّيٌّ أزرق مثلك، يجعلك تشعر بضيق في التنفس، واضطراب في ضربات القلب، وعدم اتزان في حركة الجسم. سترسم الكثير من التخيلات والتوقعات من أعماق نفسك المتقلِّبة، أوهام وتهيؤات وهلاوس، تزيد من حالة الرعب والهلع والاختناق، وترمي بك في مستنقع الجنِّ، أوحال تصورات عزلتك الموجعة.

هل أنت على استعداد لتقبل محاولات الملاعبة؟ ابتكار سبل للتسلية، كتلك التي يحتاجها الطفل الرضيع. سأختار لك لعبة ما، أيَّ لعبة، لتكن لعبة الغشاوة بين النوم واليقظة، أظنُّها الحلَّ الأنسب لك، لأنَّها ستوفر لك النوم الذي تستحقه في هذه الليلة، النوم الحالم، نوم خفيف، عشرون دقيقة لا غير، يبقي عينيك في حركة سريعة، ويزيد من سرعة التنفس، ويوفر لك المزيد من الأحلام، الأحلام أو الكوابيس لا فرق، أنت في كابوس دائم. انظر إلى حالك الذي أنت عليه في منامك وفي يقظتك. هَهْ، ما الذي يحدث لك في صَحْوك؟ هلاوس، آلام وضمور في العضلات، نوبات عنف وهياج، واضطهاد وخوف من دون سبب! أنتَ كذاب محتال شكّاك، متوتر ومتقلب المزاج وضعيف الإرادة، وتعاني من احتياجات في الإحساس بالزمن، وغالباً ما تشعر بالضعف والعجز، ويطاردك ماضيك. إرث مروِّع وخطير، يشبه مطاردة الثعبان في المنام. هذا الذي يجعلك تلجأ مُضطرَّاً للهرب إلى عالمك “الكبتاجوني”، إلى أشباح “كريستالك”، إلى خيال فيلك الأزرق، لتبدو بنظر نفسك قائد أوركسترا، مايسترو عظيماً، يعزف لحن الموت، متنقلاً من رأس ثائر إلى آخر، في تعاقب خطيٍّ من نغمات القنابل المهشمة للجماجم، ليديم النوتات المتآلفة لفترات دموية صارمة، قبل أن ينهيها بجُمْجُمَةِ ختامِ اللحن، ويحلق فوق مصارع القتلى جذلاً، مغتبطاً بالنصر.

هل نسيت سيمفونية الجماجم؟

لا أظنَّك نسيت، لكنَّك بحاجة إلى النوم دون ريب، بقاؤك يقظاً هو أمر مخيف، بل كابوس بحد ذاته. عليك أن تجد وسيلة تجعلك تخلد إلى النوم، من المُحال أن تتعايش مع ليالٍ موحشة، منزوعة السكون بدونه، لا بدَّ أن تتخلص من التوتر والاكتئاب، كي تُنعش ذاكرتك، وتُحسِّن حالتك المزاجية، وإلّا ستخسر كلَّ شيء. لا يستطيع المرء أن يواصل حياته من دون نوم، إنَّه استغراق داخلي، انقطاع عن عوالم مضت، ورحلة إلى فضاء جديد.  

لكن كيف يتأتى لك ذلك؟

أنت محاصر من كل الجهات، مشتبك مع عوالم الجريمة، لا تنسى ولا تسهو، وعصي عليك الولوج إلى عالَم الأمان، عالَم التصالح، فكيف يداعب النوم جفنيك؟

يُقال إنَّ الفيل ينام ثلاث ساعات في اليوم، والقرد عشر ساعات، والقطة ثلاث عشرة ساعة، والخفاش عشرين ساعة، أمّا أنت فلم تذق طعم النوم، غلبتك الفيلة والقرود والخفافيش، وسخرت منك القطط. لا خيار لك سوى القبول بلعبة الغشاوة، لعبتنا الليلة.

الغشاوة على العين هي الرؤية الضعيفة للأشياء، سحابة ستجعل عينيك ترى صور جرائمك مشوَّهة، أقل رعباً من حقيقة بشاعتها، وهو ما سوف يعينك خلال فترة الانتقال من اليقظة إلى النوم.

أنا لا أنكر أنَّها مرحلة تحوِّل عسيرة وغامضة، ستمر خلالها بوقت شديد الاضطراب. ربما تلامس أهداب النعاس ثمَّ تعود مذعوراً إلى طور اليقظة، ستبقى متأرجحاً بين شغفك المحموم إلى النوم والبقاء مستيقظاً حذراً، حالة تقلُّب مربكة ومعيقة، تحول دون بقائك يقظاً منتبهاً واعياً، ولا تتركك تتمتع ببيئة نوم مريحة. يا لبؤس ما تعانيه!

 هكذا ستغرق الآن، في هذه الليلة، وفي كل ليلة، في غبش الحدِّ الفاصل بين طورين متقاربين ومتعاقبين، لن تعثر على ضفاف أيِّ منهما سوى على غفوة قلقة سريعة، ربما لا تدوم أكثر من نصف ثانية إلى ثانيتين، هي غفوة نوم خاطف خفيف، تلتقط خلالها كلمة أو جملة من جحيم أفكاري، من هذا الفاصل المرسوم بالأبيض والأسود، القصاص الذي سيجلب لك شتى الكوابيس. أمّا لو حالفك الحظ ونمت قليلاً، فأنت بالطبع مبخوت، لكنَّك سترى غرائب وعجائب.

بداية من منتصف هذه الليلة، ستنطلق جولات حوارنا المباشر. فنتازيا مضحكة مبكية، تشبه رحلة جماعية إلى المجهول، حافلة بالأعاجيب والمدهشات. لا تستغرب لو سمعت صراخاً وغناءً، بكاءً وأهازيجاً. لا تعجب لو رأيت متظاهراً يرسم لوحة جدارية ثمَّ يخرُّ صريعاً، أو فتى يهتف: “نريد وطنناً” ثمَّ تتهشم جمجمته، أو طبيبة شابة تعالج جريحاً متظاهراً قبيل أن تسقط أرضاً مضرَّجة بالدماء. لا تندهش أبداً، فالوحش القاتل، البارع في أساليب القتل، والمتورط في الكثير من هذه الجرائم، هو أنت!

لا، لا، لا تصمت، قل شيئاً، ما عاد السكوت يُجدي نفعاً، لا ترجو منفعة من هذا التدليس. كان عليك أن تعرف أنَّ مثل هذه اللحظة المزلزلة ستأتي، وأنَّني سوف أتصالح مع نفسي وأعود إليك، ها أنا عُدت.

سأصف عودتي بهزة ارتدادية، عودة صغيرة وخطيرة تابعة لزلزال تهشيم الجمجمة، ربما هي أيضاً قوة ارتدادية، تمارين فعّالة، يقوم بها الرياضي لغرض تطوير القوة الانفجارية لعضلاته.. كلا، يجب أن أبدو صادقة أمامك، هذا الكلام أقرب إلى الخديعة، أنا بحاجة إليك، توّاقة إلى صنع ثنائية الذات والغير، مواجهتنا اللامتناهية، لعبة الغشاوة الأخيرة، وما تكتنفها من صلات وترابط.

أنا لا أسعى إلى إقصائك، أو القضاء عليك، لستُ شغوفة بقتلك. أنا بحاجة الى اختراق قوقعة العزلة، والإعلان عن تجديد هويتي في هذه الليلة التي جمعتني بك. لا يكفي أن أقول لنفسي: “أنا قنبلة تقرع سنَّها ندماً وحسرة”، لا بدَّ أن أقولها لك، أن أسمعها منك، من غيري، وهذا الأمر لن يتحقَّق ما لم ألتقي بآخر، فأنا لست موجودة مع نفسي إلّا حين ألتقي بك، بقاتلي الذي يشهد إعادة تكويني وتجددي، ويُقاسمُني وجع العلاقة المحتومة، وقبولها المشروط.

لا بدَّ من وجودك إذن، لا بدَّ أن تغدو طرفاً في مسار رحلتي الممتد، من مخلوق “كبتاجوني ميِّت”، إلى “قتيل حيّ”، في أشواط هذه اللعبة المجنونة، لعبة الغشاوة.

ولكن مَنْ أنت؟ حقيقة لم تعد الآخر الذي اصطففتُ إلى جانبه وتحالفتُ معه، لم تعد سيِّداً متجبراً قاسياً، ولا بعبعاً مخيفاً، أنت “آخر” واهن لا غير، متورط في جرائم قتل، وتشعر بالتوهان والضياع، لا يستقر لك وضع ولا يهدأ لك بال، تتنقل من موضع إلى آخر، في آليَّة عشوائية غير مجدية، من دون غاية أو مغزى، كأنَّك صعلوك مشرَّد طريد، يغرق في عتمة عوالمه وحيداً. وجه ممتقع يميل إلى الزرقة، وشعر أشعث مقمَّل طويل، ولحية كثَّة مهملة، وثياب رثَّة عفنة. هل أنت القناص الوحش القاتل!؟

هكذا غدوت “حاجة أخرى”، لا فائدة منها ولا منفعة، ملف قديم مرمي في درج المهملات، بالرغم من كل ما يحتويه من جرائم جسيمة، وأفعال خسيسة، وسلوك شائن. لكن هل من الإنصاف أن أدعك حرّاً طليقاً، وحشاً متخفياً عن الأنظار، لا يلتفت إلى جرائمه الخفيَّة أحد، ولا يُصرِّحُ بجرمها أحد؟ لا، هذا ليس عدلاً، ولا يمكن القبول به بتاتاً. ربما سيكون أكبر عقاب لي، في هذه الليلة وفي كل ليلة، لو تركتك بلا عقاب.

آه… أراكَ تصرخ وتختنق ويضيق صدرك، ربما ستشعر بأنك غير قادر على الحركة، هذه من علامات الجاثوم. لا ضير، عمّا قليل ستستيقظ فزعاً مرعوباً، وتنهال عليَّ بالسبِّ والشتم واللعن. سأتركك بمفردك الآن، انتهى وقت الحصة، واكتملتْ فصول دورتي، قصة سفري الثالثة والأخيرة، ومسك ختام الحفل.

ليلة الغشاوة مقطع من رواية “جمجمة تشرين”

كاتب عراقي،

[email protected]

SHARE