
عند حادثة مَقْتَلِ المُشَّرَدين، استيقظ ضميره أو خُيَّل له أن ضميره قد استيقظ فجأة. في الصباح الباكر، بينما كان يمضى نحو عمله في سوق المواشي بامدرمان، وهو يذهب عادة بعد اداء صلاة الصبح عند جامع صغير قريب من بيته في حي الملازمين، وجد في الطريق جثتين لطفلين ترقدان على الرصيف ويحوم حولهما الذباب، بينما يحيط بهما بعض المارة متسائلين عن سبب موتهما ولماذا هما هنالك وأين الحكومة التي عليها واجب دفنهما والتحقيق في موتهما، ثم عرف من بعض الذين يحيطون بالجثتين، أن هنالك جُثثا أخرى لمشردين في مواقع مختلفة من الخرطوم وامدرمان وبحرى. في تلك اللحظة سمع لأول مرة الصوت يقول له بوضوح تام
– إنهم ابناؤك.
لم يكن ذلك صوت الضمير، لأن الضمير الميت لا صوت له، ولم يكن صوت الشيطان الذي قد يكون نائماً في تلك الساعة من الصباح الباكر، وليس صوت الملائكة تلك المشغولة بكتابة الحسنات والسيئات وتسجيل مصائر البشر لذلك اليوم الجديد، إنه صوته هو بالذات متمثلا في آخر اشبه بالشبح الذي لا كينونة له بينما يوجد واقعيا في يقين من يؤمن به، اما الصوت كما فهمه هو في تلك اللحظة فكان شيئا آخر.
– لقد كلمني الرب.
ووجد نفسه فجأة يتفحص وجه الطفلين. شُوهِد على مختار الحسن المجينين بعد ذلك في شوارع الخرطوم وامدرمان وبحري وفي تلك الأزقة وجحور المُشَّرَدين ومجاريهم في سينما حلفايا المهجورة وفي بيوت ايواء الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية وفي أمكنة أخرى متباينة وشوارع منسية. يتفحص أوجه الأطفال، ينادي بأسماء متخيلة لا وجود لها، لنساء وصبيات وصبيان، ثم بعد يومين بالتمام، او قبل ذلك او بعده وربما في مناسبة أخرى، شرح له الصوت ما عليه القيام به، الصوتُ الذي يعتبره صوتُ الرب نفسه: عليك بشجرة العرديب.
ركب المواصلات الى مدينة القضارف من السوق الشعبي بالخرطوم تلك الحافلات السريعة التي تقلع مبكراً لكي تقطع مسافة خمسمائة كيلومتراً نحو الشرق. في مدينة القضارف انتظر إلى نهاية اليوم حيث لا تذهب اللواري السفرية في رحلة عودتها إلى قرى الصعيد إلا بعد انتهاء السوق واكتفاء الباعة والمتسوقين من القرويين. اذن تحرك اللوري الي عرديبة كرسي عند الخامسة مساء، ووصلها بعد غياب الشمس بثلاث ساعات، حيث كان الفصل صيفاً والطرق الترابية سالكة دون عوائق، غير الغبار والمطبات التي اعتاد عليها سائقو اللواري السفرية والشاحنات الصغيرة.
كان يعرف جميع الركاب وسائق اللوري أيضا بل انه قابل امرأتين من أقربائه وزوج خالته الصغيرة، ولكنه فضل ألا يثرثر مع احد، اكتفى بالتحية المعتادة والسؤال عن الحال والأسرة والعمل. عندما توقف اللوري في عرديبة كرسي، كان الليل مظلماً تماماً، وحيث لا توجد خطوط كهرباء عامة او خاصة، فان الظلام كان هو سيد المكان كله. عن طريق ضوء بطاريته اتجه نحو النهر الذي يفصل القرية عن حديقة الدندر المقفولة، ووجد هنالك ضالته بسهولة، وهي مراكب الصيادين، انتزع من احداها حبلا طويلا متيناً، تاركاً المركب تذهب مع التيار إلى مصير مجهول، ثم عن طريق ضوء بطاريته، توجه إلى مدرسة عرديبة كرسي النموذجية، تلك المدرسة التي أكمل فيها الفصول الابتدائية. اختار شجرة العرديب التي يعرفها جيداً. الأكبر حجماً التي لها في نفسه ذكريات قد تكون بائسة وحزينة ولكنها كانت فصله الدراسي الأول، تعرف تحتها على الابجدية وحفظ تحتها أول سُور القرآن الكريم وقصيدة دجاجي يلقط الحبة ويجرى وهو فرحان، وتحتها للمرة الأولى يعرف أنَّ هنالك أنبياء يرسلهم الله للبشر، وعرف تحتها كيف يكتب اسمه واسم امه ووالده، وتحت هذه الشجرة بالذات تمت معاقبته لأول مرة بالضرب المُبرح وعرف انه ليس هما والديه فقط من لهما الحق في معاقبته وضربه بعصى يجلبها هو بنفسه في مؤخرته فلقد كان يعتبر أن لمس مؤخرته من جانب الغرباء عيباً كبيراً، فها هو يضجع على بطنه كما طلب منه المعلم تاركاً مؤخرته لعصى العرديب تصليها مَشْقاً بينما ينظر إليه جميع الطلاب شامتين. تسلق شجرة العرديب بكل رشاقة، تماماً كما كان يفعل وهو طفلاً عندما يطلب منه المعلمون إحضار عصاً ليُضرب بها. لم يستطع رؤية تلك الأوراق الخضراء الجميلة التي تحتفي بالحياة تمنعه الظلمة من ذلك. سقط ضوء بطاريته على ثمار العرديب الناضجة التي يحبها، تجنبها في تجاهل متعمد ولو أنه أحس بمذاق العرديب الحاذق، مما أسال القليل من اللعاب في فمه فابتلعه. طارت بعض العصافير من أعشاشها وهربت طيور الرهو المهاجرة عندما ازعجها ضوء بطاريته المفاجئ ولكنها حالما عادت خلال ثوان معدودات. تململت بعض الحشرات الصغيرة، انكمشت على ذواتها بعض الأوراق عندما استشعرت حرارة جسده الضخم وهو يعبرها نحو العلي. حرباءتان التصقتا على فرع صغير لتدارك تغيير لونهما وفقاً للضوء الطارئ. واصل صعوده لا يلوى على شيء، وعند فرع متين يمتد في الفضاء كذراع مخلوق اسطوري، اختبره جيداً بكامل ثقله، ربط نهاية الحبل عليه جيداً، ومن النهاية الأخرى للحبل صنع انشوطة شاسعة وأدخل فيها رأسه الكبيرة التي تشتعل شيباً وخطة الآن الظلام بسواده، جعل الانشوطة تلتف حول عنقه باستحكام، ثم قفز من أعلى الشجرة نحو الأرض.
هل كان يفكر على الحسن المجنيين في الأطفال الذين سيحرمهم بموته معلقاً على فرع تلك الشجرة من أحد فصولهم الدراسية، حيث ظلت الشجرة في أكثر من ثلاثين عاماً تمثل حجرة دراسية للتلاميذ؟
نعم، فكَّر في ذلك جيداً، ولكن بطريقة مختلفة، فكَّر في مؤخرته التي استباحتها سياط الشجرة مشقاً، فكَّر في المعلمين العنيفين المتشائمين: سأموت الآن، ولكن رُوحي ستحل في جسدي مرة أخرة، ستخرج منه في شكل لهيب، وقد يحرق الشجرة نفسها، ولكنها ستعود إلى جسدي الذي سيصبح نقياً مثل الهواء، ستعود لي شاعاً من الضوء وستسكنني للأبد.
أسمع الآخرين يتحدثون عني بالسوء، أمامي أيضاً يقولون أشياء مؤذية، ويقولون إن روحي شريرة. إنَّ المشكلة في روحي ليست المشكلة في جسدي، نعم جسدي يتبع روحي يفعل ما توحي إليه به الروح، كل الأجساد تتبع الروح، والروح هي من الله، يعطي من يشاء روحاً خيرة وشريرة لمن يشاء، فتلك ليست مسئوليتي، ولا إرادتي، الأصوات جعلتني أفهم كل شيء، أنا أعرف ما لا يعرفه الآخرون. إن رُوحي كُشِفَتْ عنها كل الحُجُب، بالطبع لا يصدقني أحدٌ لأنهم لا يصدقون تلك الأصوات العظيمة التي تهمس لي، بل تتحدث إلى أحيانا بصوت مسموع جلي، قد تكون هي أصوات الرب، أو قد تكون أصوات مرسلة منه. إن الناس في غيبوبة وإذا استيقظوا منها ماتوا لأن مواجهة الوعي قاتلة، الوعي جنجويد الإنسان. ستنتقل روحي إلى الجحيم وستحل فِيَّ روحٌ من الجنة. أتمنى أن تبقى روحي الشريرة معلقة هنا، هنا بالذات وللأبد. هل انا شرير؟ قالت لي الأصوات: لا، ثم عادت وقالت لي نعم ثم قالت لي لا. هل أنت أكثر شراً من الذين أبادوا شعوباً ونفذوا جرائمَ شنيعة ضد الإنسانية، مثل هتلر وعمر البشير وعلي عثمان طه وهولاكو التتري؟! قالت الأرواح لي، لا، ثم قالت لي من قتل نفساً بغير حقٍ فكأنا قتل الناس جميعاً، قالت لى الأصوات إن هؤلاء أصبحوا سعداء وحصلوا على رضاء النفس بعد فعلتهم تلك، فالحق نسبي. قالت لي الأصوات إنهم الأكثر بهجة وجمالاً وسلطة، قالت لي إنهم قد تمكنوا من أرواح ضحاياهم فزادتهم قوةً على قوتهم وإيماناً على ايمانهم وجعلت عيونهم تبرق مثل جواهر مسحورة، ألم تشهد جمالها! قالت لي الأصوات: اذهب للحرب، هي الفرصة متاحة لك، وسنمكنك من قتل أكبر عدد من البشر، حينها ستسعد برضاء الضمير وستكون الذي لم تكنه. فذهبتُ للحرب متطوعاً، ما كنت ارغب في الجنة اطلاقاً وما كنت أرغب في رضاء الله أو غضبه، لم اكن مجاهداً فلقد اختلفت مع الاسلاميين كما اختلفت مع غيرهم. فذهبتُ وسهلت لي الأصوات القتل مثلما وعدتْ، قتلتُ نساء ورجالا وأطفالا وحيوانات وحرقت مدرستين وجامع صغير مبني من العُشب والطين اللبن ووضعت قنبلة كبيرة في خزان المياه الذي تُسقى منه المدينة كلها، وإذا كانت الأصوات قد مكتنتني من تفجير خزان الرصيرص لفعلت، أنا أبحث عن رضاء النفس وسعادة الضمير الأبدية. عدتُ إلى الخرطوم، ولكنني لم احصل على السعادة ولا راحة الضمير. قالت لى الأصوات، لأنك لم تسع لتحرير العالم من الشر والظلم والأنانية والكراهية، تلك هي خطيئتك. العالمُ كان يُدار بإله واحد وهو الربُ العادل الذي انتصر على الربِ الشرير، فقام بخلق الأشجار والأسماك والحيوانات، خلق الهواء والأمطار والزهور والأغاني والحب والنساء والأطفال، والطين والقُبلات ثم في اليوم السابع استراح. فانتهز الربُ الشريرُ الفرصة وسيطر على العالم بدوره، والآن يدير شؤونه، فخلق الحرب والدمار والصاعقة والبرق والنار والجحيم والجنجويد، وخلق الرجال والكلاشنكوف وأوحي للسيد نوبل بتحويل الديناميت من مادة سائلة ألى مادة جافة يسهل استخدامها ثم خلق فرانز كافكا ليؤرخ لكل ذلك الرُعب. عليك أن تعمل على استعادة العدل والتسامح والجمال في الأرض: كيف لي أن اقوم بذلك؟
قالت لي الأصوات: أملأ الأرض بأطفال الشوارع، لأنهم فقدوا الحنان والسلام والمحبة، إذا سيطروا على العالم فإنهم حتما سيغيرونه، قالت لي الأصوات جميعها، إنهم حتماً سيغيرون العالم، أكدت لي الأصوات ذلك، وباستطاعتي أن أفعل هنا والآن، انجب الأطفال، تزوج، اغتصب، مارس الجنس مع الداعرات، النساء المشردات وهو اقرب سبيل لإنجاب اطفال مشردين، وحينها ستصل لسلامك الروحي الابدي وستحرر روحك وستحرر العالم: وكما يحدث في السينما رأيت بأم عيني كيف ان العالم يتغير بينما يديره المشردون، ابنائي الذين انجبتهم انا بنفسي على هذه الأرض، كيف يتكاثرون مثل البكتيريا، يقف منهم الطفل هنالك أمام الكاميرا فينشطر الي طفلين، وينشطر الطفلان الى اربعة وينشطر الاربعة الى ثمانية وهكذا الى ما لا نهاية. قالت لى الأصوات، اقتلهم الآن، اقتلهم فأنهم سيتكاثرون اقتلهم واحدا واحدا سيتكاثرون، قالت الي الأصوات كل جثة ستنبت الف طفلا، أقتلهم. قلت للأصوات نعم، سأقتلهم، قلت لها لا، دعوهم ينقذون العالم حينها فقط قالت لي الأصوات.
– لقد فسدت روحك، لقد اصبحت شريرا، إن روحك نتنة، وعليك أن تتخلص منها، وسنهبك روحاً طاهرة نقية مثل الضوء وتصبح الها: عليك بشجرة العرديب.
قالت لي الأصوات، عليك بشجرة العرديب، نعم قالتها واضحة، عليك ايها الرجل بشجرة العرديب، كررتها الف الف الف الف مرة، هنالك خلاصك وخلاص اطفالك وستنتقم لمؤخرتك:
“لم يستطع رؤية تلك الأوراق الخضراء الجميلة التي تحتفي بالحياة تمنعه الظلمة من ذلك. سقط ضوء بطاريته على ثمار العرديب الناضجة التي يحبها، تجنبها في تجاهل متعمد ولو أنه أحس بمذاق العرديب الحاذق، مما أسال القليل من اللعاب في فمه فابتلعه. طارت بعض العصافير من أعشاشها وهربت طيور الرهو المهاجرة عندما ازعجها ضوء بطاريته المفاجئ ولكنها حالما عادت خلال ثوان معدودات. تململت بعض الحشرات الصغيرة، انكمشت على ذواتها بعض الأوراق عندما استشعرت حرارة جسده الضخم وهو يعبرها نحو العلي. حرباءتان التصقتا على فرع صغير لتدارك تغيير لونهما وفقاً للضوء الطارئ. واصل صعوده لا يلوى على شيء، وعند فرع متين يمتد في الفضاء كذراع مخلوقٍ اسطوري. اختبره جيداً بكامل ثقله، ربط نهاية الحبل جيداً، ومن النهاية الأخرى للحبل صنع انشوطة شاسعة وأدخل فيها رأسه الكبيرة التي تشتعل شيباً وخطة الآن الظلام بسواده، جعل الانشوطة تلتف حول عنقه باستحكام، ثم قفز من أعلى الشجرة نحو الأرض.”
كاتب من السودان، مقيم في النمسا