
شعر داني بالضعف وقرر تناول حليبه ومعجناته في الرابعة والربع. أزدرد المعجنات وهو ينظر من النافذة، ثم ذهب لتقبيل والدته، التي كانت مضطجعة في السرير. طلبت منه أن يبقى في الداخل ويشاهد برنامج – شارع السمسم – حيث سيمر الوقت بسرعة، لكنه هز راسه بقوة وعاد الى مكانه على حافة الرصيف. لقد أصبحت الساعة الخامسة الآن، ورغم أنه لم يكن يرتدي ساعة الا أنه كان يعرف كم كانت الساعة بدقة متناهية على أية حال، كان يحس بمرور الزمن من خلال استطالات الظلال ، ومن خلال الوهج الذهبي الذي راح الآن يصبغ ضوء مابعد الظهيرة . أخذ يدندن بلحن ما، وهو يدير الطائرة الخشبية بين يديه “خذ حبيبتي، لن أبالي … خذ حبيبتي، لن أبالي … رحل سيدي … حبيبتي ، حبيبتي، خذ حبيبتي …” لقد كانوا يغنون هذه الأغنية جماعياً في روضة جاك أند جيل التي كان يداوم فيها عندما كانوا في ستوفنغتن. لم يذهب الى الروضة هنا لأن اباه لم يعد يملك مايكفي من المال لذلك. كان يعرف أن أمه وأباه كانا قلقين حول هذا الموضوع، قلقين لان ذلك سيزيد من إحساسه بالوحدة ( وأكثر من ذلك حتى، أنهما قلقين في أعماقهما من أن يقوم داني بتنحية اللائمة عليهما، رغم أنهما لايتكلمان بذلك فيما بينهما)، لكنه لم يكن يرغب حقاً في العودة الى روضة جاك أند جيل مرة اخرى . الأطفال الكبار يذهبون الى مدارس كبيرة ويتناولون غذاءاً ساخناً. الصف الأول، في العام القادم. أنه الآن لا بالكبير ولا بالصغير. لكن لابأس في ذلك. أنه مشتاق حقاً الى سكوت وآندي – خصوصاً سكوت – لكن لاباس. وبدا له من الأفضل انتظار ماستؤول اليه الأمور . كان يفهم الكثير من الأمور بخصوص والديه، وكان يعلم أنهما لايحبان ذلك، وحدث عدة مرات أن رفضا تصديقه. لكنهما سيفعلان يوماً ما. وماعليه سوى الانتظار. مع ذلك ، كان من السيء جداً ان يؤمنا بالكثير، خصوصاً في مثل هذه الأوقات. امه كانت تضطجع في سريرها في الشقة، على وشك البكاء قلقاً على أبيه. بعض مايقلقها عصي على فهمه لأنه يخص عالم الكبار – أشياء غامضة تتعلق بالأمان، وبصورة والده، مشاعر ذنب وغضب وخوف مما سوف يحدث لهما – لكن مايقلقها الآن أمران الأول خشيتها من تعطل سيارة ابيه في الجبال ( لماذا لايتصل أذن ) والثاني أن اباه قد ذهب لفعل ذلك الشيء السيء. كان داني يعلم تماماً ماتعني هذه العبارة، لان سكوتي آرونسون الذي يكبره بستة اشهر شرح له معناها. كان سكوتي يعرف لأن أبيه كان يفعل نفس الشيء. مرة ، قال له سكوتي، أن اباه قد لكم امه في عينها وأسقطها ارضاً. وأخيراً، طلب والدي سكوتي الطلاق من بعضهما بسبب الشيء السيء، وخلال فترة معرفة داني بسكوتي كان الاخير يعيش مع أمه فقط وكان يرى أبيه في نهاية كل اسبوع. أكثر مايخشاه داني هو كلمة الطلاق، وهي كلمة طالما ظهرت له في احلامه مثل علامة مكتوبة بحروف حمراء تغطيها أفاعي سامّة، ذات هسيس. عند الطلاق لايعيش والديك معاً. ويتصارعان حولك في ساحات المحاكم ( هل هي ساحات تنس؟ أم ساحات كرة الريشة؟ لم يكن داني متأكداً أي ساحات كانت، لكن أمه وأبيه كانا يلعبان كلاهما التنس والريشة في ستوفنغتن، لذا فقد حسب أنها قد تكون واحدة منهما) وعليك حينئذ الذهاب مع أحدهما، وعملياً لاتستطيع رؤية الآخر، وقد يتزوج من تقيم معه شخصاً آخر لاتعرفه إذا أستسلم لإلحاح الحاجة . أكثر مايخيفه في الطلاق هو أنه كان قد أحس بهذه الكلمة – أو الفكرة ، أو سمها ماشئت ، عندما حدث ذلك لأول مرة ، تدور في رأس أمه وابيه، مشوشة وبعيدة نسبياً أحياناً، وكثيفة ومرعبة مثل سحابة رعدية أحياناً أخرى. لقد حدث ذلك بعد أن عاقبه أبوة لعبثه بأوراقه في مكتبه وعندما وضع الطبيب ذراعه في جبيرة. كانت الذكرى قد تلاشت الآن، لكن ذكرى فكرة الطلاق كانت واضحة ومرعبة. كانت الكلمة تدور على وجه الخصوص في ذهن أمه ذلك الوقت، وكان يحس بلا انقطاع بالخوف من ان تقوم والدته بانتزاع تلك الكلمة من ذهنها والتفوه بها، لتجعلها امراً واقعاً. الطلاق . لقد كانت تجري دائماً مثل تيار تحتي خلف أفكارهما، وكان بإمكانه دوماً التقاطها ، مثل أيقاع موسيقى راقصة. وكما الإيقاع، كانت الفكرة الرئيسية تشكل العمود الفقري فقط لأمور أشد تعقيداً، أمور لايستطيع فهمها الآن. لقد كانت هذه الأمور تتهيأ له على شكل الوان وأمزجة. كلمة الطلاق التي كانت تدور في ذهن والدته كانت تتمركز حول مافعله أبوه بذراعه، وحول ماحدث في ستوفنغتن عندما فقد أبوه عمله. ذلك الصبي. ذلك الجورج هاملتن الذي كان حانقاً على والده وقام بثقب أقدام الخنفساء. أما كلمة طلاق بالنسبة لأبوه فقد كانت أشد تعقيداً، وذات لون بنفسجي قاتم، تتخلله عروق صافية السواد مخيفة. وبدا له أنهما سيكونان بخير لو رحل هو، وسيتوقف الألم. والده يتألم باستمرار تقريباً، خصوصاً بسبب ذلك الشيء المذموم وهو تقريبا يستطيع دائما الإحساس بتعطش والده الدائم للذهاب الى مكان معتم لمشاهدة التلفزيون الملون وتناول الفول السوداني من أحد الصحون وفعل الشيء المذموم حتى يهدأ رأسه ويدعه وشأنه. لكن لاداع لقلق أمه هذا المساء وتمنى لو كان بإمكانه الذهاب اليها وأخبارها بذلك. الخنفساء لم تتعطل. ولم يذهب أبوه الى مكان ما ليفعل الشيء المذموم. أنه على وشك الوصول الى البيت الآن، قائداً سيارته على الطريق السريع بين ليون وبولدر. في الوقت الحاضر لايفكر والده حتى بالشيء المذموم نفسه. أنه يفكر بـ… بـ… نظر داني خلفه بحذر الى نافذة المطبخ. كان عندما يستغرق في التفكير أحياناً تعتريه حالة من الغيبوبة تختفي معها الأشياء الحقيقية، لتحل مكانها أشياء لم تكن موجودة من قبل. مرة ، قبل وقت ليس بالطويل بعد أن كسرت ذراعه، جاءته هذه الحالة وهو جالس على مائدة الطعام. وكان والداه ليسا على وفاق تام حينئذ. لكنهما كانا يفكران. نعم، لقد كانت أفكار الطلاق تحوم فوق طاولة الطعام في المطبخ مثل سحابة مثقلة بمطر أسود، على شفا الانفجار. ولم تكن به شهية للأكل، وكيف يأكل وفكرة الأكل نفسها زائداً كلمة الطلاق السوداء التي كانت تحوم حوله تجعله يشعر بالغثيان. وبسبب أن الموضوع كان يبدو له ذو أهمية قصوى، فقد ركز أفكاره بشكل كامل وفي هذه الاثناء غاب عن الوعي. وعندما أستفاق، وجد نفسه ممدداً على الأرضية وقد تلوثت ثيابه بالفاصوليا والبطاطس المهروسة وامه ممسكة به وتبكي وكان أبوه يجري أتصالاً بالهاتف. لقد شعر بالخوف، وحاول أن يقول لهما أنه كان بخير، وأنه كان يفقد الوعي كلما حاول التركيز على مسألة لايفهما بشكل كامل. وحاول ان يخبرهما عن توني، الذي يسميانه صديقه الخفي. كان ابوه قد قال أنه يعاني من هل وه سة . وقال أنه يبدو بخير، لكنه كان مصراً على استدعاء الطبيب. بعد ذهاب الطبيب، طلبت منه أمه أن يعدها بعدم العودة لذلك أبداً، وبألا يخيفهما هكذا أبداً، ووعدها داني بذلك. كان هو نفسه خائفاً. لأنه عندما أخذ يركز، انتقلت أفكاره من والده للحظة واحدة فقط (وقبل أن يظهر له توني ليناديه من بعيد كعادته) وقبل أن يختفي المطبخ وقطعة الشواء الموجودة على صحنه الأزرق، أخترق وعيه الظلام الموجود في رأس أبيه ليعثر على كلمة لم يفهمها لكنها كانت أشد رعباُ من كلمة طلاق أنها كلمة انتحار. لم يصادف داني هذه الكلمة ثانية في ذهن أبيه، ولم يجشم نفسه عناء البحث عنها، ولم يهتم أن كان عثر لها عن معنى أم لا. لم يكن يحب التركيز، خشية أن يظهر له توني الذي لم يكن يفعل ذلك دائماً، وكان كل مايحدث هو أن العالم من حوله يبدو غائماً ومشوشاً للحظات ثم يستعيد صفائه – وهذا ما يحدث غالباً في الواقع – لكن توني يظهر له أحياناً واقفاً عند حواف رؤيته مؤشراً له من بعيد… حدثت له هذه الغيبوبة مرتين منذ انتقالهما الى بلدة بولدر، وكم كان مندهشاً، بل فرحاً عندما أكتشف أن توني قد تبعه كل هذه المسافة من فيرمونت الى هنا. لم يفقد جميع اصدقائه، أذن. في أول مرة خرج فيها الى الباحة الخلفية لم يحدث الكثير. كان توني يومئ فقط ثم حل الظلام وبعد دقائق قليلة أستعاد وعيه وقد ترسبت في ذاكرته بعض النتف، مثل بقايا حلم مضطرب. أما المرة الثانية، التي حدثت قبل أسبوعين، فقد كانت أشد اثارة. كان توني يومئ وينادي من مسافة أثني عشر قدماً: داني … تعال أنظر … ، وبدا له أنه نهض، ثم سقط في حفرة عميقة، مثلما حدث في قصة أليس في بلاد العجائب. ثم وجد نفسه وكأنه داخل قبو المنزل وكان توني يقف الى جانبه، مشيراً الى العتمة حيث يجثم الصندوق الذي كان يحتفظ فيه والده بأوراقه المهمة، خصوصاً ” المسرحية ” . “هل رأيت”؟ قال له توني من بعيد، بصوت رناّن “انه تحت السلم. لقد قام عمال النقل… تحت … السلم … مباشرة” . كان داني قد تقدم خطوة الى الأمام ليلقي نظرة فاحصة على هذه الأعجوبة، وبينا هو كذلك سقط ثانية، لكن من أرجوحة الباحة الخلفية، التي كان يجلس عليها طوال الوقت. لقد كانت سقطة عنيفة، أيضاً . بعد ثلاثة أو أربعة ايام كان أبوه يدور في المنزل مهتاجاً وهو يقول لأمه أنه قد فتش كل زاوية من زوايا القبو اللعين بحثاً عن الصندوق ولم يجده، وقال انه سيقاضي عمال النقل الذين نسوا الصندوق في مكان ما بين فيرمونت وكولورادو. كيف سيتسنى له أنهاء “المسرحية” الآن وهو يواجه مثل هذه المعوقات دائماً؟ قال داني : كلا يا أبي، أنه تحت السلم، لقد وضعوه تحت السلم مباشرة . رمقه أبوه بنظرة غريبة وهبط لينظر داخل القبو. ووجد الصندوق في نفس المكان الذي دله عليه داني. أنتحى به أبيه جانباً وأجلسه في حجره، وسأله عمن أنزله الى القبو. هل هو توم الساكن في الطابق الأعلى؟ وقال له أن القبو مكان خطر. لهذا السبب بابه مقفول دائماً من قبل صاحب البناية، وأراد أبوه أن يعرف من ترك الباب بلا قفل. كان سعيداً بالعثور على أوراقه و “مسرحيته”، ولكن ماقيمة المسرحية لو سقط داني على السلم وكسر… ساقه. وأخبر والده بكل صدق أنه لم ينزل الى القبو. لأن الباب كان مقفلاً دائماً. وكانت أمه قد أيدت قوله، وذكرت أن داني لم يذهب الى القبو أبداً، لأنه كان رطباً ومعتماً وفيه عناكب. كما أن داني لايكذب . وسأله والده ” أذن كيف عرفت يادوك؟” “توني أراني ذلك” وتبادل والداه النظر فيما بينهما خلف ظهره. لقد كانت هذه الحالة تحدث له بين حين وآخر. وبسبب شعورهما بالفزع منها فقد قررا عدم التفكير فيها. لكنه كان يعرف أنهما قلقان بشأن توني، خصوصاً أمه، وكان يحاذر من التفكير بالطريقة التي تجعل توني يظهر بحيث قد تراه هي. لكنه فكر الآن أنها كانت مضطجعة، ولم تعد تتحرك داخل المطبخ، لذا راح يركز بشدة لمعرفة مايدور في خلد والده. تغضن جبينه وشد قبضتيه القذرتين قليلاً بقوة فوق بنطاله الجينز. لم يغمض عينيه – لم يكن بحاجة لذلك – لكنه ضيقهما حتى لم تعودا سوى شقين وراح يتخيل صوت أبيه، صوت جاك. صوت جون دانيال تورانس، القوي والثابت، الذي يهتز بالبهجة احياناً، أو يزداد عمقاً حينما يتملكه الغضب، أو يكون هادئاً عندما يفكر. يفكر بماذا؟ يفكر بـ… يفكر بـ… بـ … ( يفكر ) تنهد داني بهدوء وأخذ جسده يرتخي وهو جالس على الرصيف كما لو أن جميع عضلاته قد توقفت عن العمل. كان بكامل وعيه؛ كان يرى الشارع وفتاة وصبي يسيران على الرصيف المقابل، يمسك أحدهما بيد الآخر لأنهما كانا (عاشقان؟) كانا سعيدان باليوم وبكونهما معاً. شاهد أوراق الخريف تطير على حافة الشارع، أوراق صفراء مختلفة الأشكال تتدحرج في الريح. وشاهد البيت الذي كانت تجتازه ولاحظ كيف أن السقف كان مغطى بـ ( الألواح . لن تكون ثمة مشكلة أذا كان عازل المطر بخير، سيكون كل شيء على مايرام، ياله من شخصية رائعة واتسن هذا، لابد أن أجد له مكاناً في المسرحية، لوسارت الأمور على هذه الشاكلة فسوف أقوم بإيجاد مكان لجميع أبناء الجنس البشري اللعين في المسرحية، يجب أن أنتبه. نعم، الألواح، هل هناك مسامير؟ اللعنة لقد نسيت أن أسأله عن ذلك، لكن الحصول على المسامير ليس بالأمر العسير، مخزن معدات سايدوندر. النحل، أنها تبني بيوتها في هذا الفصل. قد أجلب واحدة من قنابل الحشرات في حالة عثوري على قفيز نحل عند تبديلي للألواح الخشبية القديمة بأخرى جديدة . قديمة… جد ي…) أذن هذا مايفكر به . لقد نال الوظيفة ويفكر بألواح خشب السقف. لم يكن داني يعرف من هو واتسن، عدا ذلك كان كل شيء يبدو واضحاً بما فيه الكفاية . قد يكون بوسعه رؤية خلية النحل، أنه متأكد من ذلك، مثلما هو متأكد أن أسمه “داني… داني ي ي ي…” رفع بصره وشاهد توني، واقفاً على ناصية الشارع قرب علامة وقوف مرورية يلوح له، شعر كالعادة بدفء الفرحة ينساب في عروقه لرؤية صديقه، لكن فرحته كانت مغلفة بشيء من الخوف أيضاً، كما لو أن توني قد ظهر هذه المرة وقد أخفى شراً ما خلف ظهره. مثل دبابير محبوسة في علبة من زجاج، لو أطلقت فسوف تلدغ بقوة. لكن لم يكن ثمة بد من الاستجابة لتوني. تراخى جسده فوق الرصيف أكثر وأكثر، وانزلقت يداه فوق ساقيه ببطء وراحتا تتدليان الى جانبه. والتصق ذقنه بصدره. ثم شعر بجذبة خفيفة لا ألم فيها وذلك عندما نهض جزء منه وأنطلق يعدو خلف توني داخل نفق مظلم . ” داني ي ي ي ي __ ” ثم لمح طيف بياض متموج في الظلمة، وسمع صوت عويل وفحيح، ورأى ظلالاً تتمايل، معذبة، في العتمة، سرعان ما تمخضت عنها أشجار سرو، تهزها ريح مجنونة، وكان الثلج يدور ويرقص في الهواء، وقد غطى كل شيء. وسمع داني المذعور صوت توني يأتيه من الظلام، وقد غلفته رنة من الأسى .” أنه عميق جداً، عميق، ولايمكننا الخروج منه ” . ولاح له من بعيد شيء آخر. شيء هائل الحجم، مستطيل، وذو سقف منحدر. أنه البياض الذي لاح له وقد شوشت صورته العاصفة الثلجية والليل. نوافذ كثيرة. لقد كانت بناية كبيرة ذات سقف مغطى بالألواح. وكانت بعض هذه الألواح جديدة، وخضراء. لقد ثبتها أبوه هناك، بمسامير من مخزن أدوات سايد وندر. والآن كان الثلج يغطي الألواح. بل كل شيء. شع ضوء أخضر مخيف في مقدمة البناية، أرتجف، ثم تحول الى جمجمة عملاقة فاغرة الفم تستند على عظمين متقاطعين . ” سم ” جاءه صوت توني عبر الظلام المتموج ” انه سم ” ولمعت أمام عينيه علامات أخرى، البعض منها كان مكتوباً بحروف خضراء، والبعض الآخر كان مرسوماً على لوحات مثبتة على الأرض بطريقة مائلة في وجه العاصفة الثلجية . ممنوع السباحة. خطر أسلاك كهربائية. هذه البناية مدانة . فولتية عالية. سكة ثالثة، خطر الموت. أبتعد، ممنوع الدخول. ممنوع التجاوز. من يخالف تطلق النار عليه فوراً . لم يفهم كل هذه العلامات بشكل كامل – لأنه لم يكن يعرف القراءة ! – لكنه عندما فهم المراد منها، تدفق في تجاويف جسده المعتمة ذعر كابوسي مثل جراثيم داكنة تألف الظلمة. تلاشت العلامات. ووجد نفسه الآن في غرفة مليئة بأثاث غريب، وكانت الغرفة مظلمة. وكان الثلج يضرب النوافذ مثل حبات الرمل. شعر بالجفاف في فمه، وأحس بعينيه تشتعلان مثل الجمر، وأخذ قلبه يدق كالمطرقة داخل صدره. وتناهى اليه صوت دوي عميق من الخارج مثل صوت باب يفتح على مصراعيه. و سمع وقع أقدام. ثم رأى مرآة في وسط الغرفة كتب داخل مينائها الفضي كلمة واحدة كانت تومض بلون أخضر ناري. والكلمة هي : لتق تلاشت الغرفة. فوجد نفسه في غرفة أخرى. بدا وكأنه يعرفها من قبل… شاهد فيها كرسياً مقلوباً، وكانت نافذتها مهشمة، وكان الثلج يدخل من النافذة وقد جمّد حواف السجادة؛ وكانت الستائر المنزوعة تتدلى بشكل مائل من عمود الستائر. وكان ثمة خزانة صغيرة مقلوبة على وجهها. أقترب صوت الدوي وأصبح أكثر رتابة ونظاماً ورعباً. سمع صوت زجاج يتهشم . أنه الدمار يزحف نحوه. وسمع صوت أجش، صوت رجل مجنون، زاده الصوت رعباً على رعبه لأنه أحس وكأنه كان قد سمعه من قبل. كان صاحب الصوت يصيح : أخرج ! أخرج ! أيها الصبي اللعين وتناول دوائك! سمع صوت خبط وضرب. ثم صوت خشب يتهشم. تبعه صوت جهوري مفعم بالغضب والارتياح. كلمة لتق تتردد في أرجاء الغرفة. الصور الموجودة على الجدران محطمة. صوت آلة تسجيل. (هل هي آلة التسجيل العائدة لأمه؟) مقلوبة على الأرضية. أسطواناتها، غريغ، هاندل، فرقة الخنافس، آرت غارفنكل، باخ، ليست، مهشمة و شظاياها مبعثرة في أرجاء المكان. عمود من الضياء ينبعث من غرفة مجاورة، أنها غرفة الحمام، ضوء ابيض حاد وكلمة واحدة تومض في مرأة صندوق الأدوية مثل عين حمراء، لتق، لتق، لتق – ” لا ” همس لتوني قائلاً ” لا ، أرجوك – ” ثم شاهد يداً ، تتدلى فوق حافة البانيو. يد لاحياة فيها، يسيل ببطء من أصبع فيها، الثالث، أصبع ذو ظفر مشذب بعناية، خيط رفيع من الدم، ويقطر على الأرضية المرصوفة بالآجر – لا لا لا لا لا – ( لا، أرجوك، ياتوني، أنك تخيفني ) لتق لتق لتق ( توقف، توني، توقف ) وشرع المشهد يتلاشى . أخذ صوت الدوي المنبعث من الظلام يزداد عنفاً وقوة، وكان صداه يتردد في كل مكان. وتراءى له الآن أنه يقرفص في رواق مظلم، فوق سجادة زرقاء ذات زخارف سوداء متداخلة حيكت داخل وبرها، مصغياً لصوت الدوي الذي راح يقترب، وشاهد شكلاً يخرج من وراء الجدار ويتقدم نحوه، مترنحاً، تفوح منه رائحة الدم والنهاية. كان الشكل يمسك بمطرقة في أحدى يديه (لتق) وكان يهزها ذات اليمين وذات الشمال بضراوة وحشية، ويضرب بها الجدران، ممزقاً ورقها الناعم ، ومقتلعاً قبضات رهيبة من غبار الجص. تعال وتناول دوائك! تناوله مثل رجل! كان الشكل يتقدم نحوه، تفوح منه رائحة كريهة، وكان ضخماً، وكانت المطرقة تهس هسيساً شريراً كالفحيح وهي تتحرك في الهواء لتطلق ذلك الصوت المدوي عندما تهوي على الجدران. كان الملاط يتناثر كالغبار من الجدران مع كل ضربة ويندس في أنفه جافاً وخشناً. وكان هناك عينان حمراوان صغيرتان تشعان في الظلام. لقد أنقض علية الوحش، لقد عثر عليه، جاثماً هنا لصق جدار أصم. والباب الموجود في السقف مقفل. ظلام . شواش . ” توني، أرجوك، أعدني، أرجوك، أرجوك” وأخيراً، عاد الى جلسته على رصيف شارع آراباهو، وكان قميصه ملتصق بظهره من العرق، الذي أغرق جسده كله. كان صدى ذلك الدوي الهائل مايزال يطن في أذنيه وكان يشم رائحة بوله لأنه كان قد تبول على نفسه نتيجة خوفه الشديد. ورأى تلك اليد الميتة تتدلى فوق حافة البانيو والدم يسيل من أحد أصابعها، أصبعها الثالث، ثم تلك الكلمة التي أرعبته أكثر من أي شيء آخر والتي لايفقه لها معنى: لتق. والآن نور الشمس. عالم الأشياء الحقيقية. ماعدا توني، الذي صار الآن بعيداً، حتى لايكاد يتبينه، يقف على ناصية الشارع ويقول له بصوته الخافت والواضح والجميل : (كن حذراً يادوك…) بعد ثانية، أختفى توني وظهرت سيارة أبية الحمراء العتيقة من نوع فولكسواغن من خلف المنعطف، وانحدرت تهدر في الشارع، مطلقة دخاناً أزرق من مؤخرتها. نهض داني لتوه وراح يلوح بيديه ويرقص، صائحاً : جاء أبي، جاء أبي. أوقف أبوه السيارة عند حافة الشارع، أطفأ المحرك وفتح الباب. ركض داني لاستقباله لكنه جمد في مكانه وقد جحظت عيناه، وأخذ قلبه يدق بعنف. لقد شاهد على المقعد الأمامي، بجانب أبيه مطرقة خشبية ذات مقبض قصير، عليها دم خاثر وشعر. ثم أنتبه فإذا بها مجرد كيس خضروات. – داني… هل أنت بخير؟ – نعم أنا بخير. ثم ركض الى والده وعانقه بقوة، دافناً وجهه في قمصلته المصنوعة من الدنيم والمحددة بشرائط من جلد الخراف. عانقه جاك كذلك، وهو يشعر بشيء من الحيرة . – لاينبغي لك الجلوس في الشمس هكذا، يادوك. أنك تتصبب عرقاً. – أعتقد أني غفوت قليلاً. أحبك يا أبي. لقد كنت أنتظرك. – وأنا كذلك أحبك، يادان. لقد جلبت لك بعض الاشياء. هل تعتقد أن لديك مايكفي من القوة لحملها الى الطابق الأعلى؟ – بالتأكيد! – أقوى رجل في العالم، دوك تورانس، الذي يهوى النوم على الأرصفة. قال له جاك، ومسد شعره. ثم سارا الى الباب وجاءت أمه الى الشرفة لاستقبالهما، وتوقف على الدرجة الثانية ونظر اليهما وهما يتبادلان القبل. لقد كانا سعيدين برؤية بعضهما. وكان الحب ينبعث منهما بنفس الطريقة التي كان ينبعث فيها من الفتاة والصبي اللذان كان يسيران على الشارع متشابكي الأيدي. شعر داني بالسعادة. كيس الخضروات – مجرد كيس خضروات – كان يخشخش في يديه. كل شيء كان على مايرام. لقد عاد أبوه الى البيت. وأمه كانت تحب أبوه. وليس ثمة أشياء سيئة. وليس كل شيء يريه إياه توني يحدث حقاً. لكن الخوف كان قد أستقر في قلبه، والفزع من تلك الكلمة الغامضة التي رآها في مرآة روحه قد غاص عميقاً في دواخله..