
لكتابة هذه المقالة أو القصة أو اليوميات أو الاعتراف أضع اسطوانة موسيقى تانغو في جهاز الستيريو. أفعل ذلك لاني من مدينة بوينس آيريس رغم انه لم تطأ قدماي أرض تلك المدينة أبدا. افعل ذلك لانها مدينتي أو كأنها. لانني أساسا وفي المقام الأول من الجنوب. أعرف كل شيء عن أمسيات باليرمو التي تزجى في التنزه عند رصيف الميناء في حر منتصف الصيف القائظ. حر لا يعطيك مجال لأن تتنفس وأنما فقط لتتعرق ولان تحلم بصمت وان تروي ظمأك ببطيخ مثلج. ترتاح، تجلس على مقعد ومن هناك تتخيل مستقبل بعيد في مكان لم يكتشفه احد بعد وان كان موجودا. مكان حيث الحرارة اقسى من هنا إلا انه أكثر جمالا من اي مكان أخر.
في العام الماضي زرت اشبيلية للمرة الاولى في حياتي. هناك شعرت كأنني في بيتي: الندلاء الأفظاظ، الناس بتذمرهم المتواصل، العجائز بمسابحهن، المقاهي المكتظة برجال متقدمين في السن متأنقين وتملأهم الكآبة، البرتقال، الخبز وصلصة الطماطم. أنا من الجنوب وأنا أوروبي، ايطالي ومن سردينيا. كل واحدة من تلك الصفات هي هوية صحيحة وملفقة لي، حقيقية ومتخيلة، عرضية ومطلوبة. ولكن وقبل كل شيء أنا من سردينيا وسيظل انتمائي للابد الى تلك الجزيرة العظيمة حيث ولدت وترعرعت بعيدا عن باقي ايطاليا واوروبا. تلك الجزيرة التي لم يرد ذكرها على الاطلاق لقرون وان ذكرت فانها تذكر على أنها باتاغونيا ايطاليا، مكان ذو مساحات لا متناهية وسكون سرمدي، طبيعة وحشية وشعب منبوذ بتهمة الكسل والبؤس هذا ان لم وصف ذلك الشعب بانه لا أمل من استصلاحه.
أنا من سردينيا وفي هذه الايام حيث تهدد حكومات أوروبا الشمالية وبشكل شبه يومي بانها ستطرد دول الجنوب من الاتحاد الاوروبي فاني اشعر في اعماقي ان ذلك التهديد لن يوثر بي مقدار ذرة لاني قد ولدت ونشأت خارج تلك الأوروبا. بالفعل لقد عشت في مكان بعيد جدا عنك لدرجة ليس بوسعك ان تتخيلها، كما يعيش اغريقي في أصغر جزيرة يونانية، جزيرة بالكاد أن يزورها أحد. عشت كما يعيش سكان البلاد الاصليين، كما يعيش الهنود الحمر. أنا وكل أهل سردينيا هنود حمر في واقع الأمر، رغم أنني لست قادرا على أن أشرح بالضبط كيف ولماذا، وبرغم انه لم يتمكن أحد حتى الآن من أن يشرح ذلك وبغض النظر أن فكرة أننا هنود حمر قد تكون مضحكة لك لاعتقادك انني أبالغ لمجرد المبالغة. أنا هندي احمر عشت في قرية كنت أشعر فيها انني في سجن مع انها لم تكن بطبيعة الحال كذلك. لقد كانت قريتي زريبة سحرية، كانت حلما وأرض عجائب كما هو الحال في كل مطارح الطفولة. كل أماكن الطفولة التي لا تصبح سحرية إلا حين ننظر أليها من أماكن نضجنا وبالذات من أماكن شيخوختنا. نشأت في “أوتا” ولعل أسم المكان نفسه يحكي الحكاية كلها اذ انه يذكر بمحميات “هنود السو” ولكنها محميات لهنود سردينيا الحمر في سهل كامبيدانو في كالياري على بعد مليون ميل عن برلين أو روما أو برشلونة. أعيش في روما إلا انني أرجنتيني ويوناني ومن لوسيتانيا وأهم من كل ذلك أنا من سردينيا وما زالت نظرتي للحياة هي نظرة سرديني طاف في العالم كله بجلد أسمر لوحه الطقس كجلد هندي أحمر تمتلأ نفسه بالفخر الى حدود التباهي بالذات وأحمل كل نقاط ضعف ومخاوف كل هندي أحمر في العالم كله.
ولكن ما علاقة أوروبا بي؟ هي كل شيء. ذلك اني أؤمن ان أوروبا لنا نحن الذين ولدنا في الاربعين سنة الماضية هي ما نريدها أن تكون. لقد كبرنا جميعا مستفيدين من برنامج ايراسموس التعليمي وأسعار بطاقات السفر المخفضة وقليل من الانكليزية البدائية وسواء كنا من هنود حمر من الجزر أو مواطنين أقحاح من فرانكفورت فاننا جميعا استمعنا الى نفس الموسيقى في آلات تسجيلنا وشاهدنا نفس الافلام في دور السينما في جزرنا وعلى مقاعدنا جميعا نفس الحاسوب. لكم هو رائع أن يطلب منا نحن الكتاب أن نكتب لهذا المهرجان (مهرجان برلين) عن تصورنا لأوروبا. وفي حين انه من الصحيح ان حقبة الانسان التي يحيا فيها تصقله إلا انه صحيح ايضا ان ما يصقله هو تلك الحكايا التي يجد فيها الانسان بعض من نفسه، تلك الحكايا التي تعطيه الثقة بنفسه وتجعله يشعر بانه جزء من كل، وذلك الكل هو شعب. ان من يفعل ذلك غالبا هم أولئك الكتاب الذين يتقاضون راتبا من الحكومة ليحكوا قصصا تدفع بالآلاف بل الملايين لأن يلبسوا لباسا موحدا وأن ينتضوا بنادقهم ويزحفوا ليموتوا من أجل الشعب والوطن. “لتحيا ايطاليا والموت للنمساويين!” (أو الأسبان أو الروس أو الالمان أو أيا كان،ـ لانه هنالك دوما من يتوجب قتله باسم شعب مهدد ولمجد الوطن). ولحسن الحظ فان أوروبا في عصرنا هذا لا تشن الحروب إلا أنه فيها من القادة من عديمي الكفاءة ومن الصحافيين الكسالى وغيرهم ممن عن سوء نية يطلقون شعارات عدوانية ويلقون جزافا باتهامات على أعداء مفترضين مطعمين خطاباتهم بصور أكل عليها الدهر وشرب عن الخنادق والمعارك والذين يلقون الخطب الطنانة من على شاشات التلفزة وكأنهم يثيرون الجماهير من على شرفة لعينة. وكل ما بوسعنا أن نفعله نحن الهنود الحمر، سكان الاقاليم النائية، نحن الكتاب الكبار والصغار هو أن نعيد سرد نفس الحقائق الصغيرة وغير الأكيدة فيما نرويه وفي المهرجانات التي ندعى اليها.
لو اني كنت أكتب في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة وطلب مني حينها ان اكتب في وصف حالة أوروبا لقلت التالي: ارفعوا ايديكم عن الألمان. ولا يخطرن ببال أحدكم ان يجعلهم يدفعون ثمن الشر الرهيب الذي حل بالعالم على يد عصابة من حكامهم الموتورين. لا تفرضوا على خياط في فرانكفورت أو فلاح في بافاريا وعلى زوجته التي فقدت أثنين من أولادها في تلك الحرب وعلى الناس العاديين الذين عانوا الأمرين في تلك الحرب، أن يدفعوا ثمن تلك الحرب من جيوبهم. لا تخلطوا بين الشعب الذي يعيش في ألمانيا بالشعب الألماني كما تصوره هتلر. وفي يومنا هذا وحين عليّ ان أكتب عن أوروبا فأن ما أود قوله هو نفسه بشكل أو بآخر: ليس هناك وجود لما يسمى بالشعب المتوسطي العاجز الذي يقضي وقته في التسكع فيما شعوب الشمال الاوروبي المجدّة تعمل بكل عزم ومثابرة. لقد قضى عمي معظم عمره يكدح في مصنع تماما كأي عامل مصنع في شتوتغارت وان كان الأجر الذي كان يتقاضاه أقل بكثير من أجر العامل في شتوتغارت. ولم يعش عمي حياة باذخة خلافا لما يتوهمه بعض القابعون في برج مصرف أوروبا المركزي. لم يدخل عمي يوما الى محل ملابس فاخرة ولم يشتر يوما سيارة مرسيدس ولم يبتني لنفسه بيتا فوق حدود قدرته. عمل والدي طوال حياته موظفا حكوميا ايطاليا. لم يتغيب ولو ليوم واحد عن وظيفته او يتمارض. ووالدي ليس احد اثرياء ايطاليا الجشعين الذين يلتهمون بشراهة مدخرات الهولنديين. ايطاليا ليست أرض شعب خامل كما انه لا وجود لما يسمى بالأمة الايطالية. هنالك طليان يعملون بكد ويدفعون ما يتوجب عليهم من ضرائب. وهناك ايضا بعض العريقين في التهرب من الضرائب. هناك طليان ممن يردون ديونهم وهناك من هم نصابون بينهم، كما هو موجود في ألمانيا وفي البرتغال ولندن. لا وجود لما يسمى بالشعب الألماني الفاضل والذين يتعين عليهم ان يحموا أنفسهم من الشعب اليوناني الذي عليه أن يدفع ثمن خطاياه بنفسه تماما كما لا يوجد شعب يتعين عليه ان يحمل ثمن الاثم الجماعي لأوزار كل جرائم الحرب التي ارتكبها قادته. كلنا نحمل وزر خطايانا وعلى خطايانا فقط نحاسب. وان كنتم تودون بناء وطن عظيم يحيا في سلام وتكون الحياة فيه راغدة وافضل من الحياة الاوطان الحالية التي بوسع هذا الوطن الجديد ان يحل محلها، ان كنتم حقا تودون خلق ما يكون وطنا أوروبيا للجميع فهذا ما يتوجب عليكم ان تفعلوه: دعوا عنكم الصور النمطية العدائية وتخلوا عن الخطابيات عن صراع اليونان والألمان وعن الدعوات لشد الاحزمة والتشمير والثأر وما الي ذلك من هراء عدائي. وإلا فانه ان لم تقم هذه الأوروبا فانني ساعود الى محميتي لأكدح مع أبناء شعبي في تلك الجزيرة العظيمة. ولا بأس في ذلك حينها فعلى الاقل، سوف نمضي في الصيف، صوب البحر ونحدق في المدى صوب أفريقيا. نعم ببساطة، كما كنا نفعل دوما.
ترجمة عن الانكليزية: عماد خشان
هذه المقالة نشرت في العدد الثاني من مجلة كيكا للأدب العالمي