قصيدة استغرابية للشاعر العراقي عدنان عادل

عدنان عادل

في الصباح،

فوق طيّات الملّاءة المُطرَّزة الأطراف بأمواجٍ مُتَكسّرة،

أجذِفُ بذراعيّ بهدوءٍ مُمدّداً على ظهري

موجهاً الدَّفَّة نحو حافة السرير الصاخبة

بشروق اللازوردي للشمسِ وبظواهر أخرى

يتخيلها المرء ويتمنى نَيلها في سرّه.

***

من بريق القَطرات اللؤلؤية المُنسابة من الأنامل،

تتزغّلَل العينان وتبدأ الأجفان بالرقص

حين ترتفع الذراع وتهبط في حركة دائرية

تُغذّيها برودة الفِراش اللذيذة ورغبة الوصول

إلى أمكنةٍ ما بعدها أمكنة.

رحلةٌ قد تقتضي أن تكون مُحمّلاً ومكدّساً بالتفاهة وبالفكاهة معاً:

توأمان صنوان يتصارعان في رَحم اللغة.

هكذا صرتَ.

***

ولأنكَ صرتَ،

قوس قزح ينحني لمروركَ

وآخر يظلكَ بألوانه في رحلة لا تدري كم ستطول،

ربما حتى وصولكَ وملامسة أقدامكَ لُزُوجَة الواقع.

إذ لا فنار هناك ولا أجساد بشرية تلمع بعرييها

والتيه في محيط السرير أمرٌ واردٌ لا محال،

إن لم تستيقظ من يقظتكَ،

وترمي بحمولتكَ من التفاهةِ والفكاهة معاً

وتكُفَّ عن التَجذِيف في اللحظة المناسبة،

لحظة التِحام الحُلم بالرغبة.

***

أمتنعُ عن الالتصاق،

لا التصقُ حتى بالأشياء الحُرَّة.

لهذا أصغي إلى نفسي لحظةً ثم أتوارى عنها كطنين ذبابة.

لهذا أيضاً لا أحاولُ الاصغاء لما يجري في الخارج

حيث يعمُّ الهدوء كما هو متوقع.

لا انفجارات تُعكّر صَفوَ الهواء،

لا ضجيج نسوة وهن يحثثن أولادهن على الذهاب إلى المدرسة،

ولا صراخ في البيت لأبٍ كادحٍ تأخر عن عمله

وهو يبحث عن فردة حذاءٍ أدَّبَ بها ابنه ليلة أمس.

***

بعد ساعات ستَدبُّ الخطوات الناعمة على الأرصفة والشوارع.

سيمشي الناس بكامل أطرافهم واثقين من عدم فقدانها.

لا تقلَقْ، فسوف لا ترى شاباً يسألكَ إن رأيتَ ساقاً شبيهة

بساق أخيه (المولود في بداية القرن الواحد والعشرين) التي في يده،

ولا امرأة تطلبُ منكَ مساعدتها

في لَملَمة طفلها المنثور بإتقان كقصيدة “حَصاة” لـسركون بولص.

لكن أقْلَقْ، لأنكَ ستصادف رجلاً يحاور نفسه ويشتم فتبتعد عنه،

وتمر بامرأة قتلتها الوحدة

وأخرى تعبت من لعب دور “المرأة السعيدة”

على خشبةِ مسرحٍ مُزينٍ ببالوناتٍ من الأكاذيب الملونة،

فتراها تبصقُ خفية على زهرة وتلعن الطيور: “جرذان بائسة”.

ستقابل أناساً ملّوا الهدوء

لكنهم يزعقون فزعين من أقل ضَجّة.

***

مجرد نطق عبارة “افتح يا سمسم !”

قد لا يكفي لتنفتح النافذة من نفسها،

لكن النسائم الهابة من الحديقة المجاورة كفيلة بذلك.

تَلاعُب الستائر الشفافة يُغريك بالتفرج من الشرفة،

لكنكَ قد لا ترى نفس الرجل المطمئن

يتصفّح جريدة على مصطبة بجوار النافورة،

ولا المرأة صاحبة الروح الشاحبة

والنظرات التي حزنت من كثرة التفاؤل

والتي كلما تتذكر مرارة حلقها

تلعقُ وجوه المارة بنظراتها المتدلية حتى أسفل صدرها

فتجدها مُرَّة، مُرَّةٌ وجوه المارين.

ترفعُ نظرها إلى السماء: قد ينسكب البحر!

وقد لا تجدها تنتظر بصبرٍ، بكيسٍ بلاستيكي أسود في يدها،

أن يتغوط كلبها المُؤَنسن الحزين المجرد من الغريزة

للَملَمة خراءه العديم الرائحة.

***

أقضي ما تبقى من النهار

مُنشغلاً بقضايا تأملية بسيطة،

أختارها بعناية وأحرصُ على أن تكون سطحية.

أتحاشى التعمق قدر الإمكان،

وأحذرُ من أن تجلب لي محاولة التحاشي هذه

عملاً إضافياً يُشغلني عن تأملاتي “الميتامُقدّسة”.

ردّ تحايا المارين من جنب السرير مثلاً

من الأمور المُحببة إلى نفسي،

وقد يجلب راحة لا يمكن أن يتصورها حتى مجنون المَقّبرة.

***

وفي الليل،

أُلاحقُ في منامي

شاعرة فرنسية من أبٍ إنكليزي وأمٍ ألمانية.

على السلالم الوهمية المُمتدة بين الثقافات،

كنتُ أراها بين حين وآخر، مُتَعمدة تُعَثِّرُ نفسها

لترتمي في النهاية بين أحضان سعادة مترهلة.

كانت مولعة بتمضية أوقاتها في ضواحي الاستشراق،

هكذا تعرفتُ عليها في ضواحي بروكسل

قرب بحيرة في بوا دو لكامبر*

عندما كانت على وشك الغرق في قصيدة استشراقية.

مدَدّتُ لها غصناً رفيعاً من بديهية لم تزل طريّة :

” هيّنٌ هو امتلاك العالَم،

المعضلة هي في التخلّي،

والحكمة تكمن في غضّ النظر عن كليهما “،

فتشبثتْ به مضطرة.

***

في بعض الصباحات

كنا نجذفُ معاً على السرير ونلقي نظرة من الشرفة،

نتشارك في التفرّج على ما يجري في الحديقة،

وغالباً ما تكون المشاهد مختلفة عما كنتُ أراها وحيداً.

كانت تعيش في حِدادٍ دائمٍ

بعدما فَضَحتْ نفسها سهواً في “قصيدة استشراقية”

باحتْ فيها بسرّ غرامها لرَجلٍ بجلباب

وكيف كانت تتلذّذ باغتصابه لها كل ليلة.

أصابتها الوسوسة

وأصبحتْ تخشى حكايات ليالي الألف

التي كانت منبهرة تسمعها من حبيبها وتفقدها القدرة على قول “لا”.

ومذّاك قررتْ العيش متوارية داخل جَرَّة في قرية نائية،

تخرجُ متخفية في الظلمة لممارسة الحُبّ.

الحُبّ! الشيء الوحيد الذي لم تستطع الاستغناء عنه.

***

هاجرتْ ذات ليلة

بعدما اقنعت نفسها مضّطرة،

بأن الاستمناء على رجلٍ بجلباب

خيرٌ من معاشرته تحت سماء الواقع.

ويقال بأنها كتبت قصيدتها الأخيرة “الاستمناء داخل جَرَّة”،

وبأنها لم تستطع أن تنجو

من شبح علي بابا ووجوهه الأربعون.

***

في الصباح

أجذِفُ بذراعيّ بهدوءٍ مُمدّداً على ظهري

أصغي إلى نفسي لحظة ثم أتوارى عنها.

لكن رغم كل ذلك،

لَكَم جميلٌ أن تلتصقَ بطنينِ ذبابةٍ في الصباح

ثم تتوارى في قصيدة استغرابية !

 

* استغراب: الاستغراب عكس الاستشراق.

* بوا دو لكامبر: غابة في بروكسل.

 

2019 –  حزيران

بروكسل

[responsivevoice_button voice=”Arabic Female”]

SHARE