
استمر عزاء أبي طويلا. أحسست معه بملل الجلوس.
انتهى أخيراً. عانقني عمي قائلاً:
– البقاء لله!ّ
خرجتْ أختي من الغرفة المجاورة وأخذت تجمع الكؤوس والأواني من على الطاولات. قبل ربع ساعة كان الصالون ممتلئا بالمعزين، جلسوا، وشربوا الشاي وأكلوا الحلوى. النساء جلسن في الغرفة المجاورة، تحت رعاية أختي
ترحموا على الميت-أبي- و انصرفوا…
كنت في حاجة إلى سيجارة، فتحت الشرفة ودخنت محدقا في ظلام الليل. و لما انتهيت، كانت أختي قد انتهت من جمع بقايا المعزين… قالت:
– لماذا لم تحضر زوجتك؟
– لديها عمل، انه الموسم الأدبي، هي منشغلة الآن
بدت الإجابة غير مقنعة بالنسبة لها، وهي تغسل الأواني في حوض المطبخ. قلت:
– كيف مات؟
– قبل الفجر
– قلت كيف ؟
– كما يموت الآخرون
تركتْ غطاء رأسها ينزلق على شعرها الأسود. تبدو متماسكة أمام موت أبي. لقد ظلت ترعاه لمدة ثماني سنوات، إلى حدود الساعة الرابعة فجرا من هذا اليوم. أنا لم أصدق وفاته، لقد ظل متماسكا حتى في لحظات مرضه، لكن الموت يأتي دائما بشكل مفاجئ… بدا صوت عمي مرتبكا وهو يحاول إبلاغي بالخبر عبر الهاتف، لكنه أطلق جملة ميكانيكية مع بعض الحزن:
ــ والدك مات.. عليك حضور العزاء…
حاولت أن أبدو متماسكا عبر الهاتف. دخنت أربع سيجارات متتاليات. أخبرت زوجتي عند استيقاظها، تفاجأَتْ وأعلنت حزنها. كذلك حاولت أن أكون متماسكا في العزاء، أمام عناق أختي ودموعها، وعناق عمي، ونظرات المعزين، وهم يجلسون ويشربون الشاي ويأكلون الحلوى ويثرثرون… في زاوية الصالون جلس رجل أشيب ببذلة سوداء في هدوء، حاولت تذكره لكنني لم أفلح، ظل هادئا، اكتفى بشرب القهوة والماء. صافحني بتأثر بالغ وعانقني عناقا يختلف عن عناق عمي.
عانقتني أختي، عانقتها بدوري، وأحسست بدفء جسدها النحيل.
و من خلال مشهد العناق، رأيت ما تجمع في صدر المطبخ من حليب وسكر وقهوة…
ــ لا تخافي سأكون بجانبكِ…
ــ هذه أول مرة أحس فيها بفراغ في البيت…
ــ ماذا ستفعلين بكل هذه السلع؟
ــ سأحتفظ بشيء منها، وأحاول بيع الباقي إلى البقال…
ــ سأذهب الآن، أنا متعب وعليَّ النوم…
حسنا.
أخذت تاكسي إلى منزلي. وجدت زوجتي قد عادت. عانقتني وأعادت تعزيتي للمرة الثانية.
ــ لقد جلبت بعض البيتزا.. نصيبك في المطبخ.
ــ لست جائعا، أنا متعب، أريد أن أنام فقط، سآخذ حماما ثم أنام.
تحت الدوش شعرت برغبة مفاجئة في البكاء. (ليس للأمر علاقة بوفاة أبي ). حاولت البكاء لكنني لم أستطع. كانت آخر مرة بكيت فيها عند موت أمي: عانقت التابوت باكيا، وظللت أبكي أسبوعا كاملاً، أتوقف، ثم أعود للبكاء بشكل لا إرادي… بعد أسبوع توقفت عن البكاء، وعشت كأنه لم تكن لي أم من قبل، أو بالأحرى ظلت أمي مجرد طيف في حياتي. طيف وديع مسالم. حدث الأمر قبل خمسة عشر سنة، بعدها ساءت علاقتي بأبي بعض الشيء- صارت علاقة مطاطية- ثم غادرت إلى إيطاليا، وعدت لأعمل مسؤولا على الصفحة الثقافية بإحدى الجرائد. لكنه أبي، لماذا لم أبكِ؟ حاولت البكاء لكنني لم أستطع!! هل كنت أحبه قيد حياته؟؟ لم يكن كرها، بل كان تمردا، احساسا بدخول روح جديدة، غامضة، إلى جسدي…
كانت زوجتي تحتسي النبيذ( هذه عادتها منذ تعرفت عليها في روما ). عرضت عليّ كأسا لكنني رفضت:
ــ كيف مرّ العزاء؟
ــ كيف مرّ العمل في دار النشر؟
دخلت الفراش وأعطيتها ظهري، وجذبت الغطاء وأطفأت نور الأبجورة. بعد لحظات أحسست بها تجذبني نحوها . قاومت ثم استسلمت. اقتربتْ مني حد الإلتصاق، مررت يدها على شعري… أتذكر أول مرة مارست فيها الجنس، جمعنا بعض المال واتقفنا مع فتاة ليل. كانت في الأربعين، وكان أكبرنا في عمر السابعة عشر. دخل أولنا ، وبعد عشر دقائق ، سمعنا صراخها، دخلنا، فوجدناه منهارا بين فخذيها: لقد مات، جحظت عيناه من الفرح ربما! لقد عاودته الأزمة القلبية. وظلت هي مندهشة وهو بداخلها. قد يموت المرء بين فخذيّ امرأة…
ــ أبي ميت.. مرة أخرى…
انسحبت منها، وأعطيتها ظهري. وفي الحلم رأيت أبي. رأيته يخرج من عمارة عالية. جريت باتجاهه لكي أقول له شيئا لا أعرف ما هو! وكان كلما اقتربت منه ابتعد… حتى تهت بين الشوارع الضبابية…
***
يأتي الموت- بطريقة مفاجئة- للفت انتباهنا إلى شيء ما .. إلى حتمية حدوثه. حدوثه في أية لحظة، وأنت تقرأ كتابا، يرن هاتفك ليخبرك عمك أن أباك قد مات!! هكذا-بشكل مفاجئ- يموت رجل في الخامسة والستين، ظللتَ معتقدا لسنوات أن الموت لا يجرؤ على الاقتراب منه! هذا الموت الذي لا طالما هربتُ منه إلى القراءة والكتابة، وإلى أجساد الإيطاليات: فرانشيسكا، سيلفيا، لوسيانا.. وإلى طبقة تهوى إدعاء الحداثة، ها هو يعود ليذكرني بهشاشتي… أنا كائن هش في أعماقي، رغم مظهري الموحي بالقوة، المظهر الذي أرممه باستمرار: الملابس المتناسقة، الكتب، السفريات، الشقة بتجهيزاتها العصرية الكاملة، الزوجة الجميلة التي تعمل محررة في دار للنشر… كلها عناصر لترميم صورة الهشاشة، لمقاومة الموت الذي قد يقتحمني في أية لحظة: عبر النافذة أو الباب، في الفراش، أمام الحاسوب، أمام المرآة أحلق ذقني… غياب زوجتي عن البيت لأسبوعين، يضاعف إحساسي بوجود الموت، واحتمالية انبثاقه من أية زاوية في الشقة… سنرقص سويا رقصة فالس.. سأدعوه إلى سيجارة أو كأس نبيذ… وأخبره أنني في غياب زوجتي أشاهد أفلام البورنو اليابانية…
أنت تعرف كل شيء أيها الموت…
***
ظللت لمدة أسبوع أتصل بأختي على الهاتف، أطمئن عليها، وأسألها عن كيف تسير أمورها في الجامعة… وكنت من خلال هذه المكالمات- المقتضبة في الغالب- أتعرف على أختي من جديد. أخبرتني أنها ترش فراش أبي بماء الورد كل صباح. عندما زرتها في المساء بدت شاحبة قليلا.. دخلت إلى المطبخ لتعدّ القهوة:
ــ أنت تحب القهوة يا أخي
تركتها في المطبخ تضع القهوة في آلة الموكا. سرت عبر الممر- الذي بدا ضيقا عكس ما عرفته. وفي آخره استقرت الغرفة ببابها الأسود. أدرت المقبض فاقتحمتني رائحة ماء الورد. لا زال كل شيء كما عرفته: السرير في صدر الغرفة، صورة زفاف أبي وأمي بجانب السرير-صورته بالحجم الكبير فوقه، البذلة العسكرية في غلاف بلاستيكي معلقة… كل شيء كما تركته، أستطيع استحضار نقيرهما، صراعاتهما على أتفه الأشياء. لا طالما تمنيت أن يكون لحياتهما زر للإيقاف: أضغط عليه فينتهي كل شيء: متوهما، طلاقهما، اختفاءهما… الهمم أن يعم الصمت المطبق ، لكي لا أضطر للسفر إلى إيطاليا لمدة خمس سنوات، وألتقي بإمرأة تريد معرفة الرابط بين النبيذ والجنس عند الإيطاليين! امرأة كلما ضاجعتها ازداد يقيني بكونها نمرة ساذجة…
ــ رائحة ماء الورد تملأ الغرفة …
ــ نعم…( و رائحة أشياء كثيرة).
أعلقتْ الباب وسرنا إلى الصالة. شربتُ القهوة بدون سكر.
ــ كيف تسير الأمور في الجامعة؟
ــ جيدة.. عدت أحضر المحاضرات.. الامتحانات على الأبواب…
ــ أريد أن أخبركِ بشيء مهم.. شيء ما.. سأعود إلى إيطاليا مرة أخرى…
ــ ستعود؟! لماذا؟
ــ أريد استعادة رغبتي في كتابة القصص… سأطمئن عليكِ عبر الهاتف.
ــ وزوجتك؟
ــ عملها في دار النشر يكفيها…
ــ لدي شيء لكِ…(أخرجتُ ورقة من جيب سترتي) أنا أتنازل لك عن نصيبي في المنزل.. خذي…
بدت متفاجئة.
ــ لا ينقصك سوى التوقيع.
أمسكت الورقة أخيراً (( حسنا )).
ــ هل استمر أبوكِ في التدخين؟
ــ أحيانا.. كان يدخن وهو يشرب الشاي…
ــ تبدين جميلة.. لا زلت تحتفظين بجمالك الجنوبي…
حاولت وضع صيغة نهائية للحديث باحتساء القهوة.
المغرب