
دخل الفراش بتثاقل إلى غرفتي في دائرة الطابو وقال:
هناك من يطلبك على التليفون في غرفة الأضابير.
كانت الأوراق مكدسة أمامي. نهضت. رفعت إلى فمي سيجارة، كانت مسندة على حافة المنفضة وعبرت رواقاً طويلاً قبل أن أدخل غرفة الأضابير. كانت سماعة التليفون موضوعة على الجهة اليسرى من المنضدة. قال الموظف العجوز بعد أن ألقى علي نظرة من خلف نظاراته الطبية:
لم لا يتصل بك أصدقاؤك في غرفتك؟
لم أكن أشعر بود تجاه هذا العجوز الذي أمضى أكثر من أربعة وعشرين عاماً في نفس هذه الغرفة، ومع ذلك قلت له:
ـ ربما، ليس صديقاً.
رفعت سماعة التليفون. قال العجوز باستنكار:
ولكنه يدعي أنه صديقك!
قلت:
ألو… ألو…
ظل الشخص الموجود على الطرف الآخر من التليفون صامتاً لا يرد، إلا أنني كنت أسمع لهاثه وهو يتنفس. قلت مرة أخرى:
ألو… هل طلبتني؟ أنا كنعان النجدي… ألو… ألو…
إنه ساكت، لا يجيب. ثم شعرت بالخط يقفـل. أعـدت السماعة إلى مكانها، أنا الآخر.
التفت إلي العجوز مبتسماً:
– هل انقطع الخط؟
– كلا … لا أدري لمـاذا لم يجب علي! هل أنت متـأكـد أنـه كان يريدني؟
إستغرب العجوز:
ـ طبعاً كان يريدك. لقد طلبك بإلحاح وقال إنه من الضروري جداً أن يتحدث إليك.
– ألم يقل لك ما يريده مني؟
-: طبعاً..لا، فأنا لا أعرفه.
عندما رجعت إلى مكتبي بعد ساعتين من الغياب، إذ كنت أحضر اجتماعاً لرؤساء الأقسام عن الطرق الجديدة في تدوين العقارات فاجأني عند مدخل المكتب موظف شاب، يعمل معي في نفس القسم قائلاً:
– “كان هنا ولكنه تعب من الانتظار.”
-: “من؟”
– “صديقك.”
قلت بهدوء:
– “أي صديق؟ “
– يقول إنه اتصل بك أمس تليفونياً، ولكنه فضل الصمت، اذ لم يشأ أن يصدمك. ولعله يرغب أن يتفاهم معك بهدوء.
حدقت في عيني الموظف الشاب بغضب:
– ماذا تقصد؟
أجاب بوداعة:
– لا أقصد شيئاً. إنني أنقل ما سمعته فقط.
– هل قال إنه سيعود؟
– كلا… لم يشر إلى ذلك، ولكنه كان يبدو غاضباً عليك.
– غاضباً علي!
– أجل. لأنك تتهرب منه.
صرخت:
ـ ولكن لم لم ينتظرني؟
– لقد انتظرك أكثر من ساعة. ثم غادر الغرفة بصمت. لعله شعر أن المكان غير مناسب للحديث معك.
– ربما.. .هل ذكر اسمه؟
– كلا. وقد بدا لي أنه لا يحب الثرثرة.
دخلت إلى مكتبي وأنا أشعر بصداع شديد في صدغي، وفكرت أن هذا الصديق المجهول ربما كان يريد ايذائي. لماذا لا يفصح عن اسمه؟ لماذا رفض التحدث معي أمس؟ أخرجت سيجارة وأشعلتها، ثم اتكأت على الكرسي، مفكراً في كل الذين أعرفهم. ترى من يكون هذا الرجل؟ إنني كائن بدون مشاريع أو عداوات، ولا أعتقد أن ثمة ما يمكن أن يتخذ ذريعة ضدي. فكرت، ربما كان بعض أصدقائي يريد أن يمزح معي. ربما… ولكن الموظفين هنا يعرفون جميع أصدقائي. حسناً… سأسأل الفراش جمعة فهو أذكى من أن تنطلي عليه مثل هذه الحيلة. قرعت الجرس. دخل جمعة وعلى وجهه ابتسامة ماكرة. قلت له:
– هل رأيت الرجل الذي جلس ينتظرني في غرفتي؟
– طبعاً، أنا الذي قدته إلى غرفتك.
– أهو أحد أصدقائي الذين يجيئون لزيارتي؟
أجاب بحدة:
– لم يسبق لي أن رأيته من قبل. إنني أعرف جميع أصدقائك.
– “حسناً… كيف يبدو؟”
تلعثم قليلا ثم قال بخجل:
ـ لا أنتبه عادة إلى الاشكال ولا أحسن التحدث عن الوجوه. واذا سألتني عن لون عيني مثلا فإنني سوف أخطىء في الجواب. ومع ذلك شعرت، وقد لا أكون مصيبا، أنه ربما كان شريراً.
– ولكن لماذا شعرت أنه شرير؟
– لأنه كان يحدق في جدران غرفتك ويبتسم.
– حسناً… سيأتي ما دام يبحث عني.
قالت زوجتي:
– لماذا تأخرت في العودة إلى البيت؟ لقد انتظرك طويلا ولكن دون جدوى.
– من هذا الذي انتظرني؟
– خجلت أن أسأله عن إسمه، فهو صديقك.
قلت وأنا أنفجر غيظاً:
– وكيف عرفتِ أنه صديقي؟
– لا بد أنه صديقك وإلا كيف جاء لزيارتك؟
– هل قال شيئاً؟
– إنه يريد التحدث اليك.
تماسكت وقلت:
– ولكنني لا أعرفه. كيف تسمحين لرجل غريب أن يدخل بيتي؟
– ليس غريباً. انه يعرفك جيداً، يعرف كل شيء عنك. ربما تكون قد نسيته ولكن هذا ليس عذراً.
– هل قال شيئاً عني؟
– لم يقل شيئاً خطيراً. ولكنه جلس على الأريكة، يرتشف قهوته ويدخن بهدوء. طلب مني أن أخبرك أنه يبحث عنك منذ سنوات وأنك تعرفه جيداً وسوف يعود مرة أخرى.

جلست في الحانة أنتظره. كان كل شيء يمكن أن يسوى بيننا لو التقيته وذهبنا معاً إلى مطعم ما في المدينة، لنتناول عشاء ساخناً بينما يحدثني عن كل ما يريد أن يقوله لي. لكم أرغب الآن أن أتكئ على مسند مقعدي الجلدي وأستمع اليه مثل طفل. ولكن ها هو النادل يقبل، حاملا الي قنينة أخرى من البيرة وأنا أكثر وحدة من مشنوق. أين أنت يا من تبحث عني؟ أعرف أن الوقت قد تأخر كثيراً. إنهـا السـاعـة الثانية عشرة ولكنني غير متعب من الإنتظار. لم أعد أطيق غيابك. هذا التعذيب الصامت لي، اذ تبحث عني في كل مكان لا أكون موجودا فيه. قبل أسبوع عندما ذهبت إلى الحلاق أخبرني أنك كنت عنده، ترجوه أن يدبر لقاءك بي. أما بائع الفواكه الذي أتعامل معه فقد عاتبني لأنني أتهرب من أصدقائي. وفي مركز الشرطة المجاور لبيتي قال لي المعاون: لقد حدد موعداً معك، الساعة التاسعة مساء في حانة الجندول. ينبغي ألا تهرب هذه المرة والا اضطررنا إلى أخذك اليه عنوة. لا تتعبه أكثر، فهو يبحث عنك منذ زمن طويل.
حسناً أيها الصديق الذي أجهل اسمه، ها قد مرت ثلاث ساعات وأنا أنتظرك في هذه الحانة الخانقة. ها هم الزبائن ينهضون مغادرين والندل يحدقون في وجهي بريبة. لماذا تعذبني؟ لماذا؟
اقترب مني النادل وقال:
– ثمة رجل عند البوابة يسأل عنك!.
– وكيف عرفت أنه يسأل عني؟
– لقد أشار إليك بإصبعه.
– سأعود.
كان الرجل قد اختفى. ولكنني لمحت جزءاً من قامته وهو يدلف إلى زقاق جانبي. قلت: لن يفلت مني هذه المرة. تابعته بحذر رغم خطواتي المسرعة. رأيته واقفاً تحت عمود كهرباء، يدخن بنشوة. كان نصف وجهه في الضوء، والنصف الآخر في الظل. لم أستطع أن أكوّن عنه أي فكرة. فقد كان بعيداً بعض الشيء وكنت ثملاً أنا الآخر ومرهقاً. ناديته:
انتظر أيها الصديق، انتظر!
ولكنه رمى بعقب سيجارته على الأسفلت وسحقها بقدمه ثم تسلل بهدوء إلى زقاق آخر، مفتوح على شارع واسع، يضج بالمارة الخارجين من الدور الأخير في السينمات. عدوت وأنا أشعر بالاختناق. كانت هذه فرصتي الأخيرة للحاق به. ناديته بصوت بدا لي أشبه ما يكون بعواء مرير. عدوت بأقصى ما أملك من قوة لألحق به. لكنه كان قد اختلط بألوف العابرين وغاب.
1972
فاضل العزاوي، شاعر وناثر، ولد في في مدينة كركوك في العراق. درس الأدب الإنكليزي في جامعة بغداد والصحافة والعلوم السياسية في جامعة لايبزج وحاز على درجة الدكتوراه عن أطروحة حول الثقافة العربية. عمل في الصحافة العراقية والعربية والأجنبية وأصدر مجلة “الشعر69”. نشر أكثر من ثلاثين مجموعة شعرية ورواية وكتاباً نقدياً من بينها مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة، رواية 1969؛ القلعة الخامسة، رواية 1972 ؛ سلاماً أيتها الموجة، سلاماً أيها البحر، شعر 1974 : الشجرة الشرقية، شعر 1976؛ الأسفار، شعر 1976؛ رجل يرمي احجاراً في بئر، شعر 1990؛ آخر الملائكة، رواية 1992؛ صاعداً حتى الينبوع، أعمال شعرية 1993؛ في نهاية كل الرحلات، شعر 1994؛ بعيداً داخل الغابة، نقد 1994 ؛ الروح الحيّة، جيل الستينات في العراق، نقد 1997؛ فراشة في طريقها إلى النار، شعر 1998؛ الرائي في العتمة، سيرة فكرية 2016؛ صانع المعجزات، شعر 2019، فضلاً عن الكتب التي ترجمها عن الإنكليزية والألمانية الى العربية او بالعكس. كما ترجمت كتبه وأعماله إلى الكثير من اللغات الأخرى مثل الانكليزية (سبعة كتب وعشرات النصوص الشعرية والنثرية) والألمانية والفرنسية والإسبانية والايطالية والتركية والهولندية والعبرية والصينية والسويدية والنرويجية والأندونيسية والتشيكية والكردية والفارسية والآذرية والدانيماركية والهندية. غادر العراق في 1977 ويعيش منذ العام 1983 في برلين ككاتب متفرغ ينشر أعماله باللغات العربية والانكليزية والألمانية.