
لم تجد ذلك في الكتب.
وجدت ذلك في شفرة رازور رقم 8623015 في أمر التصنيع، وجدته في الإحساس الخذِر الذي تتركه آخر قطراتِ الدم من المقطع الرأسي لوريد يدها اليسرى، أتقنت دائماً البحث عن مكان تدفق الدم من القلب إلى اليد، كانت عندما تنهار تضع إبهام يدها اليمنى تتبع نبض الدم في يدها اليسرى، تتمالك ارتعاشها….تتمالك نظرها نحو الشفرة المحفوظة بصندوق خشبِي وجدته ملقىً في خزانة والدها، تسمع إلى أفكارها تتهامس: إفعليها! لا…لا يمكن، أنتِ إمرأة قوية، هكذا علمكِ هيمنجواي.
هكذا أسمته…. هكذا أحبته….هكذا أرادته: هيمنجواي الخاص بها الذي عاجلاً أم آجلاً سينتحر من أجل حبها هي جيلهورن الجميلة، لكن شفرة الرازور لها حديث آخر…
سرقت الشفرة من مجموعة شفرات أخيها، كانت ذقنه التي يجتاحها رمل الشعر كل ثلاثِ أيام لا يتحمل لحمها نخسَ الشعرِ لها فكان يحتفظ بمجموعة كبيرة من الشفرات يحلق بها ذقنه، أين هي شفراته؟ في صندوق مرآة الحمام، بالرفِ الثاني بجانب فرشاة ومعجون الحلاقة، تحته تقع مجموعة من أدوية لا تعرف لمن، وجدت منذ الأزل كالحياة… شريط من الورق يحفظ في كلِ إنش شفرة حلاقة، قطعة رقيقة من المعدن بلونِه المعدنِي حُبِّرَ على سطحها كلمة RAZOR حدقت فيها بلهفة، أرادت ذلك أيضاً.
المكتابتية، كانت معروفة لدى الجميع: زميلاتها، زملاؤها، عائلتها وقاطنو زوايا أزقةِ حيها من الشباب الذين كانوا يجردونها من ملابسها قطعةً قطعة بأعينهم….تمر أمامهم حاملةً كتاباً لتحمي به صدرها أو فرجها من الأعين المتلذذة بسروال الجينز والقميص الورديْ المزهّرِ ببتلاتٍ حمراء تتوزع على مادته القطنيّة، تعد الخطوات منكسةً رأسها إلى عتبة منزلها. تمرّ الطريق كاملةً تخشى من أقدامٍ قد تلاحقها….لطالما رسمت في ذهنها مشهد اغتصابٍ من الخلف، لكنها أيضاً….لطالما لم تفلح ولو لمرة واحدة في التلفت إلى الخلف ولو بمقدارِ طرفة عين إلى أن تغلق متراس باب المنزل خلفها، إلى أيضاً أن جاء هيمنجواي يحملها إلى أرضٍ لا رهاب فيها.
المكتابتية، كانت معروفةً لدى الجميع بهذا الاسم…تعمل مكتابتية رفقة دراستها، تقطنُ في إحدى الشوارع الخلفية المتفرعة من شارع البلدية؛ وُجدت عائلتها في الزقاق المليء بالهمسات، سعار البشر وحكايات القطط والقمامة، قاست الأمرين لتنال هذيْن الحقيّن فهي وإن كانت تنتمي إلى أسرةٍ مثقفة ذات كتبٍ وذكريات في المحافل الثقافية إلا أنها أسرة بسيطة الدخل يصاحبها إنتماءها لهذه الأسرة أخ لازالت تجري في دمائه عروق متعطشة لوأدِ البنات، لازالت تيك العروق تتربص بتلك الفتاة التي هربت من مقصلة الوأد لتخوض حياة مليئة بالأعين المراقبة، إنهّا في امتحان، وكلما تنجح في تخطيه تزداد تلك الأعين تربصاً… ستنجحين إذاً في الحياة بعد أول أنفاسكِ، سيتعين عليك أن تنجحي في تخطي عقدة النقص التي ستلازمكِ حتى العشرين في كونكِ قد تضطرين بين يومٍ وليلة أن تتخلي عن حياتكِ العلمية، نجحتِ في ذلك أيضاً؟ إذاً ماذا عن قدرتك على العمل صحبة الدراسة سوياً لتخففي عن والديك مصاريف المنزل؟ أمكنكِ ذلك إذاً! العين تزداد اتساعاً….العين تزداد قرباً….العين تزداد احتجاجاً.
كان لها ذكرىً ما مع أخيها، تلك الذكرى التي تعود بها إلى أول يوم تلمس أصابعها خشونة الشفرة، عندما دخل عليها غرفتها يجرجر شعر رأسها ويلقي بها إلى الأرض، لم تكن تتخيل أن تكون أرضية غرفتها بهذه القسوة إلا عندما سقطت هنالك أول مرة، ركلها… نعم فعل ذلك، شعرت بقدمه تنغرس كالسكين داخلها، كان يزبد ويربد بكلمات لم تفهمها في البداية، لم تدرك ما الذي يفعله، وضعت لا إرادياً يديها على وجهها دون أن تدرك أي شيء، حاولت وهو يضربها ويسبها أن تعرف ما الذي فعلته بالضبط، أحست بيديه القاسيتين تمسكان بشعرها، كان لعابه كالرذاذ يلقى على وجهها وهو يصيح، لم تجرؤ أن تنظر في وجهه، أصبحت كلمات أكثر قوة في حضورها : ذلك الفتى الذي تواعدينه في الزقاق، إنه يحكي قصة قبلاتكِ الغرامية معه لجميع شباب الشارع أيتها السافلة وأنا آخر من يعلم!! عليكِ اللعنة، يجب أن تموتي…. كان يقول، أخذ رأسها وجرجره حتى المكتبة، حيث مجموعة الكتب الصغيرة التي جمعتها مع الوقت ثم ضربها بالمصطبة، جعل خدها مضغوطاً على اللوح الخشبي، شعرت بالخشب يخونها، الخشب الذي لطالما جلست عليه وهي تحاكي الفتى على الهاتف يرسل لها كلماته الحارة، الخشب الذي لطالما وضعت كراساته تكتب عن حبها له، الخشب الذي لطالما قرأت عليه يخونها مع أخيها، شعرت بالعالم يتهاوي، يجب أن يتهاوى العالم في هكذا مواقف؛ لا وجود لجدوى لحياتها إذا لم يفعل ذلك؛ شعرت به يجرجرها مرة ثانية ولكن هذه المرة إلى مكان آخر، تحرك بها نحو النافذة، أخرج رأسها وقال لها ” المرة القادمة سأجعلك تسقطين من هذا الارتفاع”، أمسك بفكها وضغط عليه جيداً حتى تستوعب كلماته النافثة، كانت الشقة تبعد مسافة أربعة أدوار على الأرض، رأت الأرض بعيدة أكثر من ما يجب لأول مرة، ثم بم! دفعها إلى زجاج النافذة، انغرس الزجاج في جبهتها وانسال الدم،أنقذها اندفاع والدها…. كان الرجل من أولئك الصحفيين القدامى الذين اختاروا العمل كوظيفة على تحمل أعباء الفتات القليل الذي تلقيه الصحف عليهم لتغطية مصروفات العائلة، أمسك يد الفتى قبل أن يقتل أخته ثم تركها وحيدةً في غرفتها تلتئم جراحها؛ بقيت يوماً كاملاً في زاويته ترتجف، تبكي، لا تعرف ماذا تفعل حتى خطر ذلك الخاطر في باله: الشفرة! كانت تعرف قصة فتاة قد حاولت الانتحار بابتلاع مجموعة من حبوب الدواء دفعةً واحدة، قررت أن تفعل مثلها.
لكن ذلك كان زمان، احتفظت بالموسى لتعود لها كل ما شعرت بالعالم يتهاوى، لكن الآن… كانت تجيد رصف الكتب، كتب قد قرأت جزءًا جيداً منها، تضعها في الرف، تمرر أصابعها على الأوراق، تمررها على الأغلفة…تمرر بشغف مخجِل، وهي تمرر أصابعها تمر القصص والحكايات والأبطال وعشيقاتهم والبطلات وقصص عشقهن، أرادت ذلك….كان عقلها يخبرها أن لا أحد، لا أحد أبداً سيجعلها تشعر كأنها شخصية في كتاب، قلبها كان يخبرها أنّ حتى الصبّار يمكنه أن ينبت في الصحراء.
جاء هيمنجواي، ارتدى في إحدى الأضحيات رداء البدويْ وفتح الباب الزجاجي للمكتبة التي تعمل بها، كانت ترصف الكتب كعادتها، تعيش عالمها الخاص وحيدةً يكدّرُ حبها أحياناً شيخ يبحث عن كتابٍ عتيق، فتاة تبحث عن قصة حبٍ بين صفحات، أسماء وعناوين حفظتها، يتكرر العنوان أو الاسم نفسه مرتين أو ثلاثة في اليوم وتنظر هي في وجه الزبون بلطف واضعةً كتاباً على صدرها أو على سروال الجينز بين الفخذيْن بيد ومؤشرةً بإصبعها باليد الأخرى ناحية الكتاب المطلوب: هناك…الصف الرابع، العامود الأول تحت لوحةِ تمثال الغزالة. الزاوية التي غالباً ما توجد بها الكتب الأكثر طلباً، فكرة جاءتها لتسهل عملية البحث عليها. جاء هيمنجواي، ارتدى البداوة وأطلّ وجهه على جسدها الذي يتفحص الكتب… كانت تعلوه ابتسامة غريبة لم تتفهم مقصدها، ارتفعت نسبة الدم في وجنتيها واحمرتا، لقد عثر عليها في أكثرِ وضعياتِ فتاة مثلها خجلاً، مقرفصةً تحت أحدِ الأرفف تبحث عن أفضلِ طريقة لترصف الشيخ والبحر حيث تغرب الشمس تناشدها أن يقول وداعاً للسلاح.
عفواً، أريد كتاباً لحبيبتي!
الصف الرابع، العامود الأول….تحت لوحةِ الغزالة. هناك!. قالت تفكر أنّ حبيبة صاحب الابتسامة الغريبة يجب أن يعجبها أحد الكتب الأكثر مبيعاً.
ها ها ها ها، مشهد رائع!
لم أفهم؟
هذا الذي فعلتيه الآن….مشهد درامي رائع، هل عملتِ ممثلة من قبل؟
……………………………..
ما هذه الجرأة؟ حدثت نفسها….ابتسامة غريبة لا يعرف كنهها، وجرأة.
اعذريني، أنا لا أقرأ الكتب … أريد كتاباً جيداً يمكنه أن يجذب انتباه فتاة ما فقط.
حسناً.
وفكرت في كل الكتب التي يمكن أن تجذب انتباه فتاة، نسيت نفسها، بحثت في قائمة الكتب المفضلة لديها : الشيخ والبحر، دون كيشوتيه، القلعة، كتب كهذه تحكي قصص أشخاص عاديين، واقعيين وساحريين بعيداً عن ترهات تراها تتناولها فتيات وطنها… مرت في بالها ألف قصة وقصة قد تقرأها هي ولن تقرأها غيرها، قصص قد تجذب انتباهها ولا تجذب انتباه أخرى، هيمنجواي…هيمنجواي، هيمنجواي، وجدت نفسها تتلقف الكتاب تلو الآخر للكاتب ذاته وتضعها بين يديه وهو ينظر إليها بابتسامته الغريبة… يحدق في عينيها تماماً دون أن يتفحص العناوين أو أغلفة الكتب، تجثو لتلتقط كتاباً من الرفوف السفلى فينظر إليها مبتسماً، تقف على رؤوس أصابعها لتصل لآخر في أعلى رف ليتابعها… انفلت ضحكاً.
رأت نفسها تلقي إليه بالكتب المحببة إليها، أخذ الكتب جميعها، سألها وهو يدفع النقود: اعذريني يا…. آسف ما اسمك؟ أرادت أن تقول له: سميني جيلهورن. لكنها ذرفت باسمها تخرط بأظافرها خشب طاولة الكاشيير أمامها، قال لها: أرجو أن تعجبها. وألقى بالابتسامة التي جذبتها، كان كأنه يسخر من خجلها، كانت كمن زاد إحراجها من كلمات كان عليها هي أن تقولها: أرجو أن تعجبها! وتلوكها باسمة.
يمكنك أن تعرف أن للموسى لذةً تعطيها للحم عندما تلامسها، عليك أن تعلم أنّها عرفت ذلك نعم، فقد جربت ذلك أكثر من مرة…. يدها كانت مليئة بالخدوش، كانت مليئة بالرعب والموت، تظنها أنها تجف، لكنها لم تجرب أبداً أن تحاول الانتحار كليةً….مجرد خدوش تشعر بالألم المفزع بعدها، تلقي يدها قطعة المعدن ملطخة بدمٍ قليل، من باب الفضول جربتها تارةً…من باب حزنٍ لا مبرر تارةً أخرى، أحست ببرودة المعدن غير ذلك مراتٍ عديدة….تمسك بالقطعة المعدنية وتبكي، تستلذ باسترجاع ذكرياتها الكثيرات، تلك الذكريات التي آلامتها والتي أحبتها….الوجوه التي ستشتاق لها، عرفت عندها أنها لا تريد أن تموت، كانت كأنها تذكر نفسها أنها لا تريد أن تموت، هذه المرة….غير ذلك، هذه المرة بشدة أرادت الفكرة.
آه لو كان هيمنجواي ليبياً….آه لو كانت جيلهورن ليبيةً. أرادت.
لكنها عرفت أن منطقها خابئ، راحت تجرجر يوم أن زارها أول مرة أذيال الخجل والخوف ككل مرة، تمر أمام الأزقة التي عرفت أعينها منحنيات جسدها وتضاريسه، تتحرك من شارع الوادي إلى شارع البلدية في حركة شبه إفعوانية، تمضي بأحد الأزقة بجانب مدرسة الفنون والصنائع، تقطع الشارع الذي اختلف الناس على تسميته وسط الوجوه العابرة والمتسوقة، تمتلكها برك المدينة في الزقاق الصغير المشجر بين الاستقلال أو المقريف وشارع أول سبتمبر أو 24 ديسمبر كما يحلو لك تسميتهما، كانت تعرف الأزقة كلها لأنها كانت وهي صغيرة تعتاد أن تلهث في المدينة بين المدرسة والمنزل مع أخيها، تمر بجانب أحد أولئك العيون الذي يشاع عنه أنه قد طلّق زوجته بسبب لعبة الورق….كان يعتقد أن الرفيق الذي يجالسه قد غشه، حلف أنه سيطلق إمرأته إن لم يكن رفيقه كاذباً، أراه الورقة المنشودة….كانت كما قال رفيقه، تمر بمجموعة شباب بينهم فتىً يخجل من إفصاحه عن حبه لها وعدم مقدرته عن التحدث إليها منذ طفولته فينعتها بالعاهرة، آخر كان يرى فيها جسداً جميلاً يستحق المضاجعة أو حتى الاغتصاب قد حق عليه القول أنه لم يجرب المضاجعة يوماً لهذا يرى كل فتاةٍ غيرها كذلك، أحدهم صديق أخيها يحاول أن يجعل عينيه وعينيها تلتقيان….زقاق تلو زقاق، يتلوهما الزقاق بالكثير من المتربصين، تحول الجميع وحوشٌ في ناظريْها، الجميع مفترسين، إنها يمكنها أن ترى جسدها يكسوه الصوف….يمكنها أن تشعر بالصوف يغزلها، بالأظلاف تخرج مقام الحذاء، يمكنها أن تتخيلهم ذئاب جالسة على الكراسي، تدخن السجائر، تشرب القهوة، تلعق شواربها، تنتظر من الفريسة زلةً واحدة لتفترسها….هاهي الحمل، هاهم الذئاب، هكذا كانت نبضات قلبها وأفكارها تترجم مشاعرها.
لا تنسيْ أن تضعي الكتاب بين فخذيْكِ. كانت إشارات يبعتها الجميع سواءً حرصاً عليها، سواءً طمعاً فيها….عقلها الباطن بات يخبرها دائماً: لا تنسيْ أن تضعي الكتاب بين فخذيْكِ.
تلت ذلك أيام؟ تلت ذلك أسابيع؟ لا يهم الأمر، ما يهم أن الوقت سحبها كعادته في طريقها المعتاد بين الكتب وشفرة الحلاقة رازور رقم 8623015 وردهات الكلية، في الكلية….تجلس وحيدةً، بعيدةً لا أحد برفقتها….فتاة الكتب الغريبة، تجلس تقرأ قصتها المفضلة منذ الطفولة: الشيخ والبحر، تجلس هناك في درج الكلية اللولبي حيث الأقسام الدراسية، تجلس هناك في الدرج ذي عرضٍ بطول قدمها، في الطابق الثالث حيث قلة الأرجل المتحركة إلى أعلى جداً، تنسى المكان…. تنسى أجرام الطلبة المتحركة تحتها، تنسى الكتب والفتيات والمحاضرين ووجودها على بعدِ ستةِ أمتار في درجٍ قديم لولبي وتبحر صحبة الشيخ في رحلته لصيد سمكة القرش اللعينة الجميلة!
لم يعجبها الكتاب الذي تقرأينه.
نظرت خلف الكتاب، وجدته ينظر إليها بعينيه الغريبتيْن مبتسماً. ضحكت، لم تتمالك نفسها، ابتسم.
هاهاهاهاها، مشهد رائع!
نعم إنه كذلك، ولكن لا تخافي ولكي لا يكون المشهد دراميأً، إنني وللحقيقة أتتبعكِ منذ مدة وقد سألت عنكِ العارفين في هذا الصرح واستخلصت برنامجكِ اليومي واهتماماتكِ وما تحبينه، فعلمتُ أنّكِ تحبين المرتفعات والكتب.
ما هذه الجرأة؟ قالت لنفسها، لكنها لم تستطع أن تنطق بالكلمات في وجهه، نظرت إلى يدها، كانت ترتعش إلا قليلاً….حاولت أن تقبض عليها وأن لا تجعل يدها تحرجها، نظرت إلى الكتاب، لم تتمالك أن تضع عينيها في مواجهة عينيه. قال لها:
ولكن الكتاب أعجبني. نعم، هاهو أول كتاب أقرأه ويعجبني…لابد أن بعض الكتب ممتعة على كل حال.
جالسها، تحدثا كثيراً…. نسيت ذاتها، شعرت به يكتب قصتها، هاهي تشعر بأنها غبية وهي تشرح له منطق القصة، ما الذي أراده هيمنجواي أن يوصله منها، هاهو يتفرج بابتسامته الغريبة….ترى ماذا يخبئ وراءها؟ قالت، حاولت أن تبعد هذه الفكرة من دماغها لتركز في إتمام نقدها ورأيها في الكتاب، قصص حقيقية حدثت للكاتب وهو يكتب القصة، تمزج حياة الكاتب بالقصة بالنساء اللاتي أحبهنّ، بكل شيء حوله، بأكلاته المفضلة، ببندقيته…. قال لها: أنا أيضاً لديْ بندقية، تحملينها هكذا، ثم تطلقين الرصاص. أراها كيف يمكن لها أن تحمل بندقية AK-47 الخاصة به….إذاً فأنت مثل هيمنجواي، شاركت في الثورة؟ سألته بذهول، قال ضاحكاً: نعم….رغم أنني لا أعرف من هو هذا هيمنجواي، ثم مضت تسأله عن الشعور في أن يكون قارئاً ومحارباً في الوقت نفسه؛ أخبرها أنه قد بدأ بالفعل في أن يكتب شيئاً ما عن هذا، قال لها أن الكتاب الذي قرأه جعله فعلاً يريد أن يكتب وفعل، كان يحمل كراساً ما، وضعه بين يديه وقال لها: ها إقرئي!
لاحقاً، عادت من الأزقة ذاتها، في القيلولة تحدق العيون ذاتها، لكنها لم تعد كما تعود مرةً أخرى، اختفت أفكارها تفكر في ذلك الجريء الذي جالسته اليوم، الثائر صاحب البندقية والأسئلة الكثيرة حول شيخها المحبوب، تناست عيناها الأزقة وأرخت العجلة لعضلاتها تقودها كما تعتاد إلى عتبات منزلها، أخذتها المشاهد….أخذتها صورته، كادت أن تتناسى أيضاً الكتاب بين الفخذيْن حتى أعادتها أصوات المتربصين.
كيف يمكن لشفرة الحلاقة رازور أن يكون لها هذا السلطان عليها؟ وضعتها أمامها على الطاولة، وقفت تحدق فيها… أمسكت الشفرة، لم يمضِ زمن كانت فيه يداها ترتعاش بمجرد أن تضع الشفرة بين إصبعيها السبابة والإبهام، هذه المرة يختلف الأمر…أحست بنبضات قلبها، لم تتغير عن حالتها الطبيعية، هذه المرة قد صممت…لن تتراجع، تمر في خاطرها صورة هيمنجواي يضع البندقية في فمه، آه لو كانت بندقية ما بحوزتها لأطلقت الرصاصات كما فعل.
عندما دخلت المنزل، أغلقت غرفتها، نظرت من شباك نافذتها إلى الزقاق الضيّق وتابعت الوجوه بالأسفل، أغلقت البرسيان الخشبي ثم أخرجت الكراس من حقيبتها تتنفس باشتياق، كانت يدها ترتعش وهي تقرأ ما كُتِب في الكراس؛ كان شيئاً مليئاً بروح ما داخله… نعم لم يكن أروع شيء قرأته لكنها أحست بأنه أصدق ما قد قرأته، كان صوته يتحرك بين أذنيها وهي تقرأ، تشعر به يتحدث عن مشاهد الدمار، القصص التي عاشها، الناس الذين عرفهم، شعرت بصدقه فيها، كانت تبتسم مع كل خطأ لغوي تراه، مع كل تلعثم في الإملاء، مع عدم قدرته على التعبير المناسب عن ما يجول بخاطره، لكنها كانت تبتسم أكثر مع الكلمات المتدفقة منه.
جاءها بالمكتبة، طلّ عليها من جديد.
أريد كتاباً…من اختياركِ أنتِ.
حسناً. قالت فرحةً تبحث عن كتاب آخر له…
كانت تبحث بين الكتب العديدة عندما شعرت بشيء يلامس جسدها، يد تتحرك أسفل ظهرها، كانت تنزل ببطء شديد من ظهرها، مسحت بهدوء جذعها الطريْ… رسم أصابع يده على المؤخرة، جذبها إليْه…أحست بيديه تناديها، خشيت في البداية، شعرت أنها قد يغتصبها أبناء الأزقة الذين يحلو لهم أن يتخيلوا أنفسهم أن يغفوا بين فخذيْها وهم يتلصصون على اللحم خلف سروالها الجينز، همّت أن تمنعه….لكنّها، رأت ابتسامته الغريبة التي إطمأنت لها منذ البداية، ابتسامة هيمنجواي! صرخت داخلها، هاهو هيمنجواي ليبياً… هاهو، دعيه يقبلك، دعيه…دعيه! صرخت فتاة الكتب داخلها، أرخت عنها دفاعاتها التي نصبتها للجمــيع له، لا تعرفه جيداً بعد، لكنها قبلته، تذكرت ذلك الفتى في الزقاق وأخيها، إنزعجت قليلاً، أبعدت الخاطر عنها وقبلته من جديد…لم تتحدث إليه تلك الأحاديث الطويلة حول الغرام وجماله أو متاعبه لكن شفتاه مرتا ببطءٍ بين شفتيْها، يداه شدت بإحكام تاجر يوثق حزام الإبل عن بضاعته، لم يتبادل معها القصص عن يومه المتكرر لكنها ذابت بين يديه، قطعة من الشوكلاة تذيبها حرارة اللحظة، تذكرت أنها قد مررت الموسى على شفتيْه لتشعر بقدرتها على سفكِ دمها، الدم كان ينزل من شفتها السفلى إثر جرحٍ بحجم قطعة سكر صغير صنعه ضغطها الزائد على الشفرة رقم 8623015، شعرت بأسنانه مثلها تسلخ شفتيْها يمص دمها، تلك كانت فقط البداية.
عادت؟ لا ليس فعلاً، مرت بين العيون حالمة لا ترشدها إلى الطريق إلاّ قدماها التي اعتادتا الطريق نفسه، يداها على العكس نسيتا الطريق، نسيتا قوانينه وآدابه وأنّه عليها أن تختار أي عضوٍ من جسدها عليها أن تستره بالكتاب هذا اليوم، كانت لازالت تحتفظ بلسانه وطعم السجائر والقهوة تخذر شعورها بالمشاهدين، الذئاب التي من بين الأزقة تلعكها بين أسنانها كما تظن، احتفت بنسيان ذاتها، بتجميدها لآخر جزء من شفتيْه بين شفتيْها، نسيت أنها كما تظن أيضاً مجرد حملٍ ترقبه الذئاب، اصطدمت بجسد أخيها أمام الباب، اوه…إنّه الكبش الحامِي للقطيع، ألقى بنظرته في المكان، في الشارع…حدّق فيها، في جسدها، في فرحتها المخبأة، كان كأنه يشتم رائحة، أن يحدثه جسدها بسروال الجينز عن عدد الذئاب التي ستستمني حالمةً بها، عن المخططين…وأسوء، عن الذين نجحوا في ثياب الخرفان أن يقنعوا النعجة الصغيرة، الحمل…أن ترخي دفاعتها لهم.
لكن الشفرة أيضاً لها أحاديثها…سمعت قصصاً دائماً عن فتيات يفشلن في الانتحار، كانت تمر بها هذه الأحاديث تصطنع عدم الاهتمام لكن يجذبها أن تعرف الفتاة، أن تفتش عن علامات الفشل بين يديْها، عن الشعور بالخزي والعار الذي يصنعه المحيطون، عن الشعور بالحزن والألم الذين يتضخمان في جسدِ الفاشلة، هكذا سمتهنّ لتذكر نفسها أنها ستنجح عكسهن، قرأت عن الطريق الصحيحة التي يمكنك بها أن تنجح في الانتحار باستخدام الشفرة، الآن ستجربها…الآن يمر هيمنجواي وبسمته، أخوها والحادثة الذي أحدثها في وجهها، الذئاب، الكتب….والجلسات الثقافية، والأحاديث عن الفاشلات.
في الكلية، فعلها معها مجدداً….على الأدراج التي كانت تظن أنها عزلتها لما كانت لها عزلة، اغتال لحظات السكينة التي تسترقها من المحاضرات وأخيها وتعب العمل وأبناء الشوارع والجلسات الثقافية بصحبة الشيء الذي تحب، بصحبة الكتب….اغتالها، وجدها تمسك بالكتاب تكاد تعانقه لما أخذه منها ليطل واقفاً أمامها تحدق في الهواء ثم تبحث عن الذي قطع عنها سكينتها، ابتسمت….لم تستطع أن تغضب، كانت ابتسامته الأمريكية المشبعة بعبق الحرب الأهلية التي يحلو لها أن تسميها ” الاسبانية”، تخلط كل شيء بحياة ذلك الكاتب، خلطته هو أيضاً…. مدّ إليها مجموعةً من الأوراق، قال لها:
إقرئي!
أخذت تقرأ، كانت عنوان لقصة كتب تحتها اسمه، التهمت القصة بسرعة….ست أوراق كانت، التهمتها جميعاً:
يبدو أن الكتابة قد أعجبتك؟ سألته متعجبة…كانت تطير من الفرحة والتعجب.
هل أعجبتكِ؟
امممم….
وقبلها على الأدراج، قال لها متناسياً القصة:
أعرف مكاناً رائعاً، هل تريدين المجيء؟
فعلها معها هناك، لم يتطور الأمر لأكثر من خمس دقائق راحة في إحدى قاعات الكلية الفارغة التصقت ثيابها بثيابه، التمس مناطق واستشعر مناطق ومد يديه تحت الملابس يلمس لحمها، كانا على نافذة تبدو للوهلة البعيدة أن لا أحد يمكنه أن يشاهد من في المكان فيها، إلا أنها رأت جسداً.
انتفضت منه، خافت…شعرت أن الجسد تحت النافذة يحدق فيها بعينيه، يتبينها، هربت، الطريق إلى البيت كانت وعرة…كانت تلتفت كل مرة للخلف تبحث عن صاحب الجسد الرقيب، هربت…أسرعت، تذكرت طيلة الطريق حادثة أليمة مرت بها منذ زمن عندما كانت صغيرة، سيفعل بها مجدداً ما فعله أول مرة، سيحطم رأسها على نافذة دارها كما فعل تلك المرة، عندما هاجمها حب المراهقة، سيفعلها….لابد أن أخوها سيضربها مجدداً، إنه هو لا محالة.
نسيت جسدها، كانت ترتعش كسعف النخيل في ريحٍ عاصية.
ضغطت بالموسى على يدها، تتذكر كل شيء… ومن ما تذكرته، تلك المتعة، تلك اللذة التي أحست بها عندما غاصت يداه في لحمها، يدا الكاتب اللتين تتشكلان ببطء، إنّه يملك تجربة الكاتب، روح الكاتب ولو لم يملك حتى الآن اللغة المناسبة له، لكنها يمكنها أن تجعل من ذلك حقيقة، أن تساعده في ذلك، وهي التي لطالما أحبت أن تحب كاتباً، أسقطت الموسى، وضعت يدها هناك في ذلك المكان، ومررت أصابعها كما فعل هو، شعرت بلذة، تخيلته، تناست أخاها، قررت أنها ستعيش حتى ترى تلك اللحظة تتحقق.
لكنك يجب أن تعرف أنها كغيرها كانت تعيش في زاواية ضيّقة يحرس خروجها منها ذئاب، كلاب حراسة، خرفان القطيع، والوحوش التي تملأ أفكارها، كانت كغيرها أيضاً مليئةً بالبارانويا، الفوبيا، التوبيخ الذاتي، لم يكن بها شيئاً مميزاً سوى أنها شربت من عصير محرم في مكتبة والدها المنسية حتى جاءت هي، إلتهمت المعرفة وعرفت أنها لا تعيش الحياة التي يحكي هيمنجواي وغيره عنها، الحُب، المغامرة، الحرب، الحياة، التقاطع بين الواقع والخيال كل ذلك كان عبارة عن خيوط خياطة شُبكت مع بعضها البعض فلا تعلم كيف ترتبها أجمعين، كاذب من يقول لك أنّ الأمر واضح بالنسبة لها أو لغيرها، واضح وبسيط… عليها أن تدرس حتى يأتي فارس الأحلام مليئاً بالنقود، اللحم والقوانين العُرفية التي لم تفهمها يوماً فيأخذها من المدرسة لفراش الزوجية، كانت أفكارها أكبر من ذلك…نعم، وكان لها أن تدرك أن عليها أن تجد لنفسها مخرجاً من تلك الزاوية الضيقة.
سحبها حبه من الشفرة رقم 8623015، أحبته لم تعرف لماذا، لكنها أحبته… لم يكن ذلك الشخص الاعتيادي الذي يجب أن يحبه الجميع، شعرت أنه مثال جيد للكاتب غير المتكلف، المجنون، غريب الأطوار، الذي يبتسم لأحاديثها عن الثقافة، الفن، الحياة دون أن ينبس بكلمة واحدة، كان مجهولاً بالتمام بالنسبة لها لكنه شعرت أنها تعرفه جيداً عندما قرأت له ما كتبه بخطه المرتاع، لم يكن يحدثها إلا عن الأسلحة، الرجال الذين عرفهم في الجبهة، الحياة هناك، الذباب، سهريات المكرونة، اللحظات التي كان يسرقها للاستحمام، الأشياء التي صادفها ومجموعة الأحلام والمخاوف التي كانت تقض مضجعه، كان عقلها يقول لها أن تبتعد لكن قلبها كان يشعر بالإطمئنان، كانت تكره تلك الطبقة المثقفة التي تحتل البلاد، لم تحبهم يوماً، شعرت دائماً أنهم مزيفون عداه هو، حصيلة كتبه التي قرأها لم تكن سوى تلك التي أعطتها له، لكنه كان نهماً في قراءتها، نهماً في التعبير عن نفسه في الورق، نهِماً في النظر إليه مبتسماً دون أن يتحدث، كان الوقت يجعلها أكثر قرباً منه، نسيت خوفها والبارانويا فقط لما كان يأخذها هاربيْن من أسوار الكلية إلى المدينة حيث المقاهي البعيدة عن الظهرة، الدهماني أو التكوين الإيطالي، كانا يقفان أمام بحر حي الأندلس، هناك بالقرب من خرابات رابطة الأدباء والمثقفين والكلاب والبحر يلتطم بأحجار قرقارش، ثم يركبان السيارة مرةً أخرى متجهين إلى الكلية في الشوارع المنسية من الناس يسترقان قبلةً أو لعبةً في الطريق.
كانت تراه أكثر من منزلها، فعندما تعود للعمل في المكتبة في شارع البلدية، كانت المكتبة لصديق والدها أحد المثقفين الذي كانت تأتي ووالدها وهي صغيرة لزيارته في المكتبة التي ورثها من أبيها، تتوه في الكتب ويتوه هو وأبيها في الأحاديث الثقافية، أصبحت هي تتوه والرجل العجوز في الأحاديث الثقافية حتى يخرج الرجل للمقهى، في ذلك الوقت بالذات كان هيمنجواي يأتي، في آخر أنفاس القيلولة حيث تفتر حركة الأرجل، يمارسان الحُب بين الأرفف ثم تعطيه كتاباً ليقرأه من بين الكتب؛ لكنهما أبداً حتى الآن لم يمارسا الحب كاملاً، كان يلح عليها أن تفعل… كان شيئاً داخلها يريد ذلك، لكنها أبداً لم تفعل.
تناست المجتمع الذي يحيط بها، تناست أخاها، تناست أبناء الأزقة المترقبون لإفتراسها، تناست كل شيء حولها، حتى الشفرة رازور 8623015 نسيتها، لم يعد شيء يهم في حياتها غيره هو، مزقت واقعها ووقعت في الحلم اللذيذ للحب، شعرت أنها لم تعد محتجزة في الزاوية الضيقة وأنها هربت، أنه أبعد كل الوحوش الحارسة في الزاوية وأخرجها لترى المدينة كما لم تراها من قبل، لترى نفسها كما لم تراها من قبل.
لم يكن هنالك شيء يمكنه أن يعكر ذلك الصفو والتناغم والأدرينالين في جسدها سوى تلك الرغبة الملحة له، ولحسن الحظ فقد كان العجوز صاحب المكتبة الذي كان يصاحبها في معظم وقتها في المكتبة يعاني بين الفينة والأخرى وعكةً صحية، كان عليها أن تعتني بالمكتبة لوحدها في فترة مرضه، اتصل بها صباحاً وقال لها بصوت كأنه يخرج من الماء:
لن آتِ اليوم، لا أشعر بتحسن.
دعت له بالصحة وأن ينهض بسلام، قفزت فكرة واحدة داخلها في تلك اللحظة، يجب عليها أن تتصل بهيمنجواي وأن تخبره أنها جاهزة اليوم، لم تخف من أن يقتحم زبون ما عليها المكتبة، من يقرأ في هذه البلاد بأيةِ حال؟ كان زبائن المكتبة قلائل، فلم تكن تلك المكتبة التي توفر جديد الكتب، بل إنها لم توفر كتباً جديدةً منذ ثلاث سنوات بدأت فيها أفكار إغلاقها تراود العجوز بين الفينة والأخرى فيها، كان عدد الزبائن يومياً يعد على الأصابع، كان همها الوحيد هو العجوز الذي مرض.
جاء، أغلقت الباب الزجاجي للمكتبة… غيرت اللافتة إلى ” راجع حالاً” وكانا الآن هنالك لوحدهما في المكتبة، اصطحبته إلى مخزن الكتب المخفي، وفعلاها، نزع عنها ملابسها، أدخله فيها، تأوهت، كانت مستسلمةً تماماً شعرت أنها لا تملك عظاماً لتمسك بها وأنه كان العمود الوحيد الذي تتكئ عليه، ضاجعها من الخلف، لم تكن تريد له أن يلمس مكان عفتها لكنه كان يملك ما تبقى من جسدها…. فعلاها ذلك اليوم مرتين في الظهيرة.
عادت إلى المنزل مخذرة…. شعرت باختلاف في ذاتها، لم تعد أبداً كما عادت اليوم، كانت لا تضع كتبها بين فخذيها ولا نهديها، متكشفةً للجميع بجسدها الواثق، تحدق في المحدقين، لا تلتفت إلى الخلف، رأت أخاها ينزل من السلالم ونظرت نحوه ينظر لها، قال لها:
لماذا تأخرتِ اليوم؟
كان مريضاً، كان علي أن أعتني بالمكتبة.
هذه المكتبة! لا أعرف لما على والدكِ ان يجعلك تعملين فيها.
ثم تركها، تابعت جرمه الذي ينزل من السلالم، شعرت كأنها تشتم رائحة ما فعلته اليوم، كانت تعتقد أن لكل شيء تفعله رائحة ما، الحب، الكتب، الدراسة، الجنس، الكراهية، الخوف، كانت تعتقد أنها تصدر كل تلك الروائح وأنه من السهل على من يقترب خطوتين منها أن يقرأها فقط من الرائحة.
اتصلت بهيمنجواي، كانت تريد أن تقول له أن هذا اليوم كان أجمل أيام حياتها، تذكرت كامل التفاصيل، يده تتحرك في ردفيها، ترتفع إلى نهدها حيث تنزع الملابس، حيث تنتزع القميص وسروال الجينز، قبلاتها في فمها وخدها، وهو ينزع الحجاب على شعرها لكي يداعبه، هو ويمصها، هو وهو يلحسها، جسدها مندفعاً على الكتب والرفوف وهو يلجها، أرادت أن تخبره أن المشهد رائع حقاً، أنها تريد منه أن يفعلها لها في كل دقيقة تمضي من حياتهما، أن يكتب عن ذلك حتى، أن لا يستحقي من أن يقص ما حدث كما لم يستحِ أن يقص لها حياته كلها، لكنه لم يرد، حاولت الاتصال به مجدداً، لم يرد… شعرت بارتباك، اتصلت مرةً أخرى لكن لم تمضي ثانية حتى أغلق الخط، سمعت الصوت خلف السماعة يقول ” الرقم الذي طلبته….. مقفل” في المرة الرابعة عندما حاولت، تذكرت قصصه التي كتبها، لم تفكر يوماً أنها يمكن أن توجد على شبكة الانترنت، كتبت اسم إحداها، وجدتها… في موقع إلكتروني لكاتب ليبي شاب في بداياته، بحثت عن القصص جميعها لكن لم تجسد اسمه فيها، لا شيء…صدمتها الحقيقة، لكنها كابرت في حبها له.
دعني أخبرك قليلاً أنّه ليس هنالك ما قد يجعلك حياً سوى الحُب، وما قد يجعلك ميتاً سواه؛ لأنّه لا ضمانات فيه، إنّه كلعبة النرد، إما أن تصيب أو تخطئ، ولكن ما يجعله تجربةً محفوفةً بالرعب هي تلك الزاوية الضيقة التي لا يمكنك في الظروف العادية أن تخرج منها سوى بتصريح من الحراس، وإذا اعتقدت حقاً أنك تملك القدرة على فعلها فكن متأكداً أن هنالك ريبة ما في الأحراش.
توقفت حياتها في لحظة واحدة، تلك اللحظة هي لحظات محاولات الاتصال به دون جدوى، قالت لنفسها أنها ستراه في الكلية…. لكنها لم تفعل، تبخر، قالت أنه سيأتيها يوماً ما في المكتبة، لكنه لم يفعل، قالت أنها ستحاول الاتصال به مرراً حتى تتمكن من التواصل معه، لكن دون جدوى؛ نحلت، كان الواقع يطبق عليه مرةً بعد أخرى…. إلى أن نجحت في الاتصال به، شعرت بالأمل، أعطته الأعذار جميعها، سمعت أن حرباً ما قد شنت في مدينة ما في هذه البلاد المليئة بالحروب، قالت ربما أنه ذهب يحارب وهاهو يعود سالماً الآن، كان صوته خلف سماعة الهاتف:
أهلاً…
أين أنت؟ لماذا اختفيت؟ كيف تنساني؟
انهالت عليه بالأسئلة، شعرت أنها ككل الفتيات التي عرفتهن الآن، كل اللائي كانت تعتقد أنها لم تكن مثلهن، كان عليه أن يطمئنها على الأقل على نفسه، ما فعله لا يغفر، راجعت علاقتها معه، كان دائماً كذلك، هل أخبرها يوماً ما أنه يحبها؟ لا، لم يفعل… كانت هي من تقول له ذلك، كان هو هو، لا يحب إلا الحديث عن نفسه أو الانصات لها، كيف لم ترى ذلك من قبل؟ إنها غابت في جسده، في سحره، في جرأته، فيه حتى لم تعد تفرق بين ما تعنيه الأشياء، سمعت صوت قهقهة في سماعة الهاتف وهي تسترجع مشاعرها اتجاهه ومشاعره اتجاهها، كان يضحك بشيء من السخرية، قال لها:
ولماذا تريدين مني أن أهتم بك؟
صعقتها الكلمة، لكنه عاد يضحك مجدداً ثم قال لها :
من يهتم بالعاهرات على أيةِ حال؟
أغلق سماعة الهاتف، ولأول مرة منذ زمن، عادت تحدق فيها خيال الزجاج ينغرس في رأسها، الدم، الألم، الإحساس بالهزيمة أمام الرقيب، الإحساس بالهزيمة أمام الواقع، عادت للواقع مجدداً…. آه لو كان هيمنجواي ليبياً، لكنه لم يكن، مرت الأفكار السيئة جميعها في رأسها، أحست بزجاج الأفكار ينغرس في جمجمتها، بدمِ الكوابيس ينسكب على عينيها، بألمِ الخذلان وكذبة الحلم تلازمها، فتحت الدُرج حيث الصندوق حيث الشفرة رقم 8623015 رازور، وضعتها أمامها في الطاولة، ارتعشت… خافت، بكت، ثم مرت الفكرة في رأسها بسلاسة….لم تبقى إلا هي تعزف في رأسها، توقف الارتعاش ، توقف الزمن والأحلام واختفى الرقيب، أمسكت شفرة الحلاقة بين إصبعيها السبابة والإبهام، مررتها طولياً تتعمق الشفرة مع كل ضغطة في وريد يدها اليسرى، الدم يخرج، تشعر به، تنتفض يدها اليمنى حباً في الحياة، تسقط.
استيقظت، وجدت نفسها في غرفة على سرير أبيض، جنة المنتحرين ؟! نظرت إلى يدها التي حاولت بتر الحياة منها، حدقت فيها جيداً، ضمادة تلف الجرح، ألم مرير وتعب شديد يقطعان جسدها، إحساسٌ بعدم القدرة على الحركة، أنبوب يصل الدم إلى يدها، وصوت جهاز قياس القلب يعمل، لا حاجة لأن تضع إبهامها على وريدها لتعرف أنها عاشت، فشلت في كل شيء، وأصبحت ببساطة من الفاشلات؛ لم تجد ذلك في الكتب… وجدت ذلك من شفرة الحلاقة رازور 8623015 أنّ هيمنجواي ليس ليبياً، وأنّ الحب ليس ليبياً، وأن لا شيء حقاً ليبيا…. لا شيء سوى الفشل.
طرابلس – ليبيا
[email protected]