«الحافلة مزدحمة بالركاب لا مكان لك، هيا انصرفي».
صرخ السائق في وجهي. أخبرته بأني لا أجد مشكلة حتى في الوقوف بمحاذاة الباب، المهم أن يقلني. الوقت قد تأخر، ولا أستطيع البقاء. فالمكان شبه مقطوع، لا تكاد تمر حافلة أو حافلتان في اليوم. وفي الأماكن المقطوعة يصبح الخطر ضرباً من ضروب النجاة. بعد جهد جهيد، وبعد أن دفعت له تذكرة راكبين، وافق. أغلق الباب، وراح يصيح في الركاب «اللعنة عليكم، التزموا الهدوء وإلا قتلتكم» وبين الفينة والأخرى يدخن ويشتمهم «إلى متى وأنا أحمل في حافلتي قطيعا من الماعز، رائحتكم مقززة». أوقف المحرك، ثم التفت نحوهم، بصق عليهم قائلاً: «في المرة المقبلة سأحضر معي، مبيد حشرات لمكافحة رائحتكم النتنة، يا لكم من بهائم تسير على الأرض». وبسرعة جنونية، واصل القيادة. مادت الحافلة بنا يميناً وشمالا، شعرت بانقباض في أمعائي، كنت على وشك أن أتقيأ الخوف ممزوجاً بفراغ معدتي، فمنذ أن نَزلت بذلك المكان، لم أتذوق لقمة واحدة. تمالكت نفسي، تنفست الصعداء، وابتلعت ما تيسر لي من الجُمل المسكنة التي يتفاعل معها عقلي الباطني بكل جدية. حركت مخيلتي قليلا، مستحضرة مكانًا جميلا، وموسيقى هادئة تنشر الطمأنينة بين خلاياي الثائرة. أثثت عالماً صحياً بداخلي أستطيع عزلي به وفصلي عن الواقع المربك حتى تنتهي الرحلة. نظر إلي سائق الحافلة نظرة ماكرة، وبسرعة تداركت الأمر، أشحت ببصري عنه، كي لا تلتقي أعيننا. لكنه أفسد عليّ ما بذلته في ترميم روحي. حذفني بكل شيء استطاعت يده أن تطاله، بدءًا من العلب المعدنية، أوراق لف السندوتشات، مغلفات الشوكولاتة الفارغة، مناديل متسخة. وعندما لم أحرك ساكنا، ولم أبدِ أي اعتراض، سحب كيس القمامة -المعلق حول يد ناقل الحركة- وحذفني به. استشاط غيظا، حتى انتهى به الأمر، إلى حذائه الذي أصاب وجهي. كان الرب قد بعث فيّ سكينة هائلة، قوة مضاعفة، لم أستخدمها من قبل، ولم أعرفها حتى في كل حياتي، فردّة فعلي راسخة كجبل لأن أمراً إلهيا أراد ذلك. وعلى الرغم من ثباتي، شعرت بأنني أبكي بداخلي، وأستصرخ النجدة، ولأنني مؤمنة منذ زمن بأن المظهر الذي يبدو عليه الإنسان أمام الآخرين ما هو إلا ستار لما يحدث بداخله، كان يبدو علي طيلة حياتي ما أريد أن يبدو، وأخفي ما أريد أن أخفيه. كانت لدي مهارة عالية في التكيف لذلك كان الجميع يضرب ببلادتي الأمثال. حرصت طيلة الرحلة على صفاء مزاجه، فأي دخيل عليه، سيفقده صوابه. دعوت الله سرا أن يتنازل هذا اليوم عن هبوب الرياح. أن يأمر أشعة الشمس بالتوقف عن ضربه، أن نكمل الطريق دون الحاجة إلى محطات. لكن خزان الوقود خذلني. توقفنا في منتصف الطريق عند المحطة ليملأه. وقبل ترجله، وجه للركاب عبارة تحذيرية “من يخرج من الحافلة لن يصعد مجددًا، مفهوم؟!” وحين خرج، سحبت نفسا عميقا، راقبته من النافذة، كان قد ابتعد مسافة لا بأس بها، زادت ضربات قلبي، وبخطوات قليلة مرتجفة، أصبحتُ مكانه، أقفلت الأبواب، والعرق يتصبب من جبيني، ضغطت بقدمي على دواسة الفرامل، حررت المكبح اليدوي، ثم انطلقت. فقد كنت الراكبة الوحيدة التي صعدت الحافلة.
- وفاء الراجح، كاتبة من السعودية. وهذه القصة نشرت أولا في كتاب “قصص من السعودية” صادر عن هيئة الأدب والنشر والترجمة، الرياض 2021. تُنشر هنا بالاتفاق مع المؤلفة.